إدارة وتربية مواسم ومجتمع

معالي الوزير وإشارات الخليل!

معالي الوزير وإشارات الخليل!

يتداول بعض الناس أخبارًا متفائلة عن أحد الوزراء المشهورين بالجلد والهمة العالية، ملخصها أنه طلب من موظفيه وأهل الاختصاص التواصل معه بالأفكار والرؤى لتطوير أعمال وزارته، وهذا صنيع حميد، ومنهج رشيد، مآله توفيق من سلكه، وتحقيقه إنجازات يحوز بها قصب السبق، ويؤدى مقتضى الأمانة الملقاة على عاتقه، وخير من ذلك وأبقى رضوان من الله لمن أخلص ونصح وأحسن.

وفي لحظة تأمل لفتت نظري بعض الإشارات في سيرة خليل الله ورسوله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ولا عجب أن تكون سيرته الكريمة مليئة بالفوائد لما فيها من أحداث أسرية، ومجتمعية، ودعوية، وسياسية، وتغييرات خالدة على الأرض، وهجرات متعددة، ومقابلة أصناف البشر، وفوق ذلك كونه أحد أولي العزم، وأب لكثير من الأنبياء الذين أتوا بعده عليهم الصلاة والسلام.

فمن إشارات الخليل أنه زار منزل ابنه البكر إسماعيل -عليهما السلام- فلاحظ من زوجته التذمر وكثرة الشكوى، ووجد منها قلة الاعتراف بنعم الله وآلائه، فحملّها رسالة رمزية لزوجها بأن يغير عتبة الباب، وهذه إستراتيجية ناجعة حين تكون البيئة الداخلية في حال غير قابلة للإصلاح، وإن النقض والبناء من جديد لأنفع من ترميم هيكل هش متآكل كثير الشقوق والميلان آيلٍ للسقوط مع أيّ هزة.

وحين أراد الخليل عليه السلام استطلاع أوضاع مجتمع الدعوة خاطب المستفيدين مباشرة، لأن تقارير الوسطاء فيها تحسين للصورة أو إخفاء للواقع أحيانًا، والمسؤول الحصيف يبرئ ذمته بالنزول إلى الميدان ولا يكتفي بما يقوله من حوله؛ لأن بعض المحيطين غارق في لجة الهوى والمصالح والعداوات، ومن حكمة الخليل في حواره مع قومه أن طرح عليهم افتراضات لا يؤمن بها وإنما ليعلم ما لديهم أولًا، وكي تنكشف أمامهم الحقائق بلا حجب ولا تغبيش ثانيًا، ثمّ يختارون وجهتهم دون قهر أو إجبار ثالثًا.

كما أبدى الخليل منطقية عالية في نقاشه مع الملك النمرود حتى أفحمه وظهر الحق جليًا، وهاهنا فائدة للمسؤول الذي يصدق مع نفسه، ويترفع عن الإسفاف، ويراعي عقول الخلائق، فالكذب والافتراء وقلب الأمور لا يأتي بنتيجة إيجابية دائمة، فضلًا عما يلمح إليه من ازدراء أفهام الناس ووعيهم، فالله الله في المنطقية والرزانة التي نكسب منها التوقير وإن لم نظفر بالموقف الذي نريده، ونسلم من الفضيحة عند الانكشاف الحتمي فما من شيء يخفى.

بينما يضطر صاحب المهمة التاريخية إلى أن يقتدي بالخليل عليه السلام حين أصر قومه على عبادة أصنام لا تنفع ولا تضر، ولم يجدِ معهم ترغيب أو ترهيب، فجعلها جذاذًا إلّا كبيرًا لهم لما في الإبقاء عليه من حجة واضحة، وأعان الله أيّ ذي منصب على أصنام وأوثان من إرث سابقيه وتعاقب السنين، ومن آثار اختطاف الخدمة لصالح فئة أحيانًا، وما تركته من مخلّفات على هيئة أعراف وأنظمة وتراتيب وأشخاص، ولربما أن تحطيمها مع كبيرهم هو مقتضى الحكمة وواجب الوقت وشرط ضروري لأي تصحيح وتطوير.

أما سنة الخليل حين أحاطت به المحن وظفر به الأعادي وقذفوه إلى نارهم البشرية فكانت نسيجًا على غير مثال سالف، إذ رفض الانصياع لهم، وأبى قبول أيّ عون مكتفيًا بصدق الصلة مع الله سبحانه وتعالى، وهكذا يفعل الوزير المؤمن حين يزبد عليه الملأ ويخوفونه بالتنكيل والعقوبة، فيكون الله هو الملجأ وإليه الملتجى وحده دون سواه، وتلك مرتبة لا يكاد أن يبلغها إلّا الذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا، وإن العاقبة لهم.

ولا غرو أن يفعل إبراهيم الخليل ذلك وهو الذي آمن بأمر ربه ومولاه ولكنه طلب منه الدليل المادي ليطمئن قلبه، وجادل الملائكة عن مصير لوط -عليهما السلام- حتى أيقن أن معهم أمرًا من الإله الحكيم فتوقف، وتبرأ ممن بدت منهم العداوة ولو كانوا قومه الأقربين، وما أكمل المسؤول الذي يناقش ويسأل حتى يقتنع، ولا يكون مثل الآلة التي تستجيب بلمسة زر دون بصر بالعواقب، أو سؤال عن الغايات، وتقليب أوجه الرأي وإعادة النظر.

وبعد أن بنى إبراهيم الخليل البيت الحرام سأل الله القبول لعمله، والأمن لبلاده، والرزق لأهلها، وعلى صاحب المعالي أن ينظر فوقه ويتتبع مظان رضوان الله ثمّ ما يحقق مصالح بلاده ومجتمعه الحالية والمستقبلية، ولو بغرس لا يثمر إلّا بعد زمان، أو نزع فتيل سوء بتدرج وهدوء، وإن تكثير الخير وتقليل الشر لمن الطاعات والمعروف الذي يحق لصاحبه أن يقول بعده: ربنا تقبل منا يا سميع يا عليم، فعين رجل الدولة الحكيم مصوبة نحو مصالحها العليا العامة، وما أبعده عن الفردية الحصرية والفئوية الضيقة.

بقي أن أقول إن هذه الإشارات تناسب أيّ مصلح مهما كان منصبه، وثقافته، لأنها من المعاني العامة التي يستطيع الموفق العاقل إنزالها على واقعه، وتطبيقها بالطريقة التي تناسبه، وبالقدر الذي يمكنه منها، وعسى أن يتخذه الناس قدوة ومثالًا متبوعًا في الخير والرشاد، تمامًا كما أصبح الخليل عليه الصلاة والسلام أسوة لنا في جميع الشؤون، فلا يرغب عن طريقته إلّا من سفه نفسه.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 17 من شهرِ رجب عام 1441

12 من شهر مارس عام 2020م 

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)