سير وأعلام عرض كتاب

عبدالعزيز الخضيري: بركة المسير والأثر

عبدالعزيز الخضيري: بركة المسير والأثر

المعاني الجميلة، والأخلاق الفاضلة، أوسع من أن توضع في إطار يحجمها، ومن ذلك فضيلة البر بالآباء والإخوة وعموم القرابة التي يقصرها البعض على تسمية أو صدقة أو حجة، ومع أن ذلك صنيع مشكور مأجور إلّا أن مجال البر أرحب وكم ترك الأول للآخر، والمكرمات محيط في متناول اليد والهمة وإنما الشأن في الاغتراف منه.

فمن البر الذي يغفل عنه البعض إبقاء السيرة، وتخليد الذكر، ولا غرو فقد سأل نبي كريم ربه أن يجعل له لسان صدق في الآخرين، ولذلك سررت حين أهدي لي كتاب عنوانه: الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الخضيري رحمه الله (1308-1385=1891م-1966م) حياته-أبناؤه، بقلم نجله البار د.علي بن عبدالعزيز الخضيري، وصدرت الطبعة الأولى من الكتاب عام (1441=2020م) في (88) صفحة مكونة من مقدمة وأربعة عشر عنوانًا ثمّ الوثائق فتعريف مختصر بالمؤلف، وعلى غلافه الأمامي صورة لمزرعة الشيخ المترجَم له من محفوظات نجله البار أيضًا د.منصور، والله يديم التعاون على البر والتقوى بين الإخوة وغيرهم.

يحكي الكتاب أكثر من سيرة؛ فأساسها مسيرة الشيخ عبدالعزيز ثمّ شذرات عن بنيه وبناته، وفيها دروس وعبر على رأسها بركة حفظ القرآن، وأثر دراسة علوم الشريعة والفقه، وأهمية التعليم والجدية في الحصول عليه، مع الإحسان إلى الأقارب، واللطف بالناس، في جملة سجايا من الطيبة، والكرم، والصلة، وخفض الجناح.

وهي قصص يهديها المؤلف للأحفاد والأسباط، سمعها من والده وإخوانه الكبار، ثمّ نشرها فالعلم كنز يجب إنفاقه كله أو جله، وهاهنا فائدة لبابها أن محادثة السابقين والكبار وتسجيل مروياتهم فرصة قد تفوت ما لم تقتنص، وحفظ المآثر للقادمين سياسة حسنة قد تطويها هموم العيش حتى تضيع في دوامة الأعمال، والموفق من سأل فحفظ ووعى ثمّ أدى لمن يأتون بعده.

تعود أصول هذه الأسرة العريقة إلى حوطة سدير وقبيلة بني تميم، ومن المحفوظ انتقال جدهم الأكبر سليمان بن حمد بن سليمان بن مانع إلى الشقة في القصيم منتصف القرن الهجري الثاني عشر، ثمّ تصاهر مع أسر القصيم بعد أن عرفوه وعرفهم، وتفرعت الأسرة من ولدين له وانتشرت في بريدة والبكيرية.

أما المترجَم فولد سنة (1308) وفيها حدثان مرتبطان ببعضهما؛ أحدهما عام وهو وقعة المليدا التي هزم فيها ابن رشيد جيش القصيم، وحصد منهم عددًا ضخمًا من القتلى ومن ضمنهم والد المترجَم؛ ولذا عاش يتيم الأب في كنف والدته مزنة الشويهي دون أن يكون له إخوة أو أبناء عم؛ ولأجل ذلك تعلقت به أمه وسألت الله أن يرزقه عشرة من الولد ومئة من الأحفاد وألّا يحلّ رباط كفنها أحد سواه، وهو ما كان وزيادة؛ وما أعظم بركة دعاء الوالدين لأبنائهما، وهذا الدعاء متمم لجمال التربية وربما يُغفل عنه، وفعل نقيضه أشنع.

ثمّ حفظ الطفل عبدالعزيز القرآن الكريم صغيرًا على شيخي البكيرية محمد الخليفي-والد الشيخ عبدالله إمام الحرم المكي- والشيخ صالح بن كريديس، وما أعظم أجرهما بتلاوته العذبة، وتوريثه القرآن لذريته فمنهم الحفظة، ومنهم أصحاب السابقة المحمودة في إذاعة القرآن الكريم، والتقديم التلفزيوني والإذاعي بلسان عربي سليم من اللكنة واللحن.

وشارك الفتى اليافع في معركة البكيرية الشهيرة عام (1322) ومهمته المراقبة في برج البكيرية، وبعد المعركة عمل مدرسًا لأبناء مزارعي النفيد في رياض الخبراء بناء على طلب الشيخ عبدالله الخضير، ثمّ عاد للبكيرية وأقام فيها سنتين قرر عقبهما السفر إلى العراق بحثًا عن الرزق، وصاحبه في طريق ذهابه راشد البصيلي -والد الفريق عبدالله رئيس الحرس الملكي– ومحمد المقوشي.

وكانت رحلة شاقة للغاية لا يكاد أن يتخيل وعثاءها جيل الترف، ويكفي أن المسير كان على الأقدام المكشوفة غالبًا في لهيب الصيف، مع الاضطرار للاكتفاء بالقليل من التمر، وبسبب صعوبة الحصول على العمل في مزارع البصرة التي ألفوا مثيلاتها في بيئتهم، سافر إلى الكويت وعمل في الغوص مع أن أبناء الصحراء لا يعرفون البحار، وما أحوج الإنسان لجرأة محمودة وجسارة محسوبة يأتي بعدها عيش رغيد.

مكث الشاب عبدالعزيز في بحر العجم كما يسميه- لم تكن تسميته بالخليج العربي مشتهرة آنذاك- أربعة شهور مرتفعة الحرارة من مايو إلى نهاية سبتمبر بحثًا عن اللؤلؤ مع منافسة ألفي سفينة أخرى قبل أن تتضاءل تجارة اللؤلؤ وتنتهي بسبب تطور صناعته، ومن أثر عمله المضني تشققت أصابع يديه، وشهد المؤلف هذه الشقوق في إبهام والده، وما أطيب الكسب من عمل اليد.

وأمضى الخضيري خمس سنوات في هذا العمل المرهق، فربح منه مالًا وفيرًا بالروبية الهندية ثمّ حوله إلى الريال الفرانسي لأنه العملة المتداولة في بلاده، وكاد أن يفقد أمواله في طريق عودته لولا لطف الله به وبثمره كدحه الحلال، وحين رجع إلى البكيرية طارت به أخته فرحًا فهو الأخ والسند خاصة بعد أن أصبحت أرملة.

ومن عجائب القدر أنه في طفولته حفظ القرآن في دار واسعة طالما تمنى امتلاكها، ومن تدبير الله أن عزم صاحبها على الرحيل فعرضها للبيع واشتراها الشاب العائد بستين ريال فرانسي، ثمّ تزوج أربع زوجات ثلاث منهن يحملن اسم منيرة من أسر المرزوق والهويريني والنجران البكري، والرابعة حصة المحيميد وهي والدة المؤلف.

فأنجب منهن الأبناء والبنات، وعاشوا في ألفة ومحبة كما يظهر من السياق والتوقير الكبير بين الإخوة والزوجات مع التآلف والمسايرة، وتلك رحمة من الله ينزلها على البيوت وأهلها بصلاح سيدها وحسن إدارته، وسلامة قلوب النساء ومغالبتهن لطبيعتهن، وتسامي الأبناء عما يغضب أباهم الذي ينتسبون إليه وإن اختلفت أمهاتهم.

كما زادت تجارته وصار الفتى اليتيم الفقير من أكابر تجار البكيرية ويُنادى بالعم، فسعى لتحقيق مصالح بلدته مطالبًا بفتح المدارس للجميع ذكورًا وإناثًا، ودفع أولاده للدراسة وتحمل بعدهم وسفرهم للرياض والطائف في سبيل طلب العلم، ولقد جنى الثمرة ورآها عيانًا؛ وغدا هو وبنوه من أعلام البكيرية ومشاهير القصيم.

بينما عُرف عنه الحرص على صلاة الجماعة بل على تكبيرة الإحرام، فإذا فاتته في مسجد أدركها في آخر، ولم ينس بعد أن أغناه الله بناء المساجد، وإعفاء المعسرين من الديون، ووقف شيئًا من أمواله وممتلكاته، ومع أن أولاده حفظوا تسجيلًا صوتيًا لتلاوته العذبة إلّا أنها ضاعت، وليت أن الأبناء يسارعون لتوثيق مشاهد حية لوالديهم؛ فما أوجع الحنين لسماع صوت الأب والأم بعد رحيلهما. 

وبعد رحلة حج واستشفاء مات الرجل الصالح عقب رؤيا ذات دلالة، تاركًا عن نفسه أحدوثة عذبة وذكريات نافعة، وأبناء كرام اشتغلوا في القضاء حتى تنازعت المدن والنواحي لإبقائهم فيها أو جذبهم إليها مع أن نصف الناس أعداء لمن ولي القضاء إن عدل، وإنما القبول من الله يقذفه في القلوب فتُعمر بالود للصالحين.

ومع القضاء اشتغل بنوه بالتعليم في المعاهد والجامعات، والإمامة المبكرة للتراويح والصلوات، واعتلاء غير مسبوق لمنابر الجمعة، وكتابة أول رسالة دكتوراه في الأدب العربي بالمملكة، والمشاركة في تأسيس ناد رياضي، مع تأليف وأعمال مباركة في المجال العام الحكومي والمجتمعي؛ وهم على دروب الخير سائرون مع ذرياتهم وأحفادهم.

فيا أيها الأبرار: اكتبوا سير آبائكم وأمهاتكم وراحليكم الكرام، لتبقى فينا قصص المروءة والمآثر الحميدة، وليعلم الشباب من الجنسين أن هذه طبيعة بلادهم وأهلها، وليست أمرًا طارئًا، أو مستوردًا، أو انحناءً لتأثير أو موجة، فهم أهل الجدية والمكارم والخلال السامية والارتباط الوثيق بدينهم وعروبتهم، ولعلهم أن يقتدوا، وعما يخدش عراقة الآباء أن يبتعدوا، فذو الأصل الرفيع يردعه أصله، ويمنعه عن مقارفة الشوائب، ولا مناص للعريق النبيل الأصيل من عودة إلى طبيعة جذوره ومنابته الطيبة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-عنيزة

ahmalassaf@

الجمعة 11 من شهرِ رجب عام 1441

06 من شهر مارس عام 2020م 

 

Please follow and like us:

2 Comments

  1. بسم الله الرحمن الرحيم رحم الله الشيخ المحسن عبد العزيز الخضيري . واسكنه جنات الفردوس الاعلى وبارك له في ذريته . وجزا الله خيرا ولده الدكتور علي بن عبد العزيز الخضيري بكتابته هذه السيرة العطره لوالده . فلقد كانت الاجيال السابقة لا يستثقلون اعمالهم . مع العلم انهم في الغالب يشتغلون تحت ضغوط مختلفة . انما يصنع المجد الصابرون . فالشيخ عبد العزيز واحد من هولاء . فهنيئا له ولعائلته على هذا التوفيق . في الدنيا والاخرة .وفقك الله العلي القدير. الكاتب الفاضل احمد لما يحبه ويرضاه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)