محمد السويلم: كفاح بين ثادق والزُّبير
كنت في ضيافة أستاذ جامعي كبير للحديث معه في شأن ثقافي، فتشعب الحديث بنا لاسترجاع ذكريات والده التي سمعها عنه لأنه لم يدرك معه سوى عشر سنوات، وهي ذكريات فيها غربة، وتنقل، ومتاعب، لو قيل بعضها لمن يتمرغون في النعم لما صدقوا، ولو تأملها من لم يشكروا المحسن على أفضاله لخروا لله سجدًا وبكيًا، ولم أغادر مكانه قبل حثّه على تدوين مروياته عن والده قبل أن يطويها النسيان؛ فهذا حق للراحل عسى أن يُذكر بدعوة، وحق للحاضر واللاحق للعظة.
لأجل ذلك سعدت حين أهديتُ كتابًا عنوانه: كفاح مغترب: سيرة ذاتية للشيخ/ محمد بن حمد بن إبراهيم السويلم يرحمه الله (1319-1404)، من إعداد نجله البار المهندس عبدالمحسن بن محمد السويلم -وكيل وزارة الإعلام المساعد سابقًا ورجل الأعمال حاليًا-، وصدرت طبعته الأولى عام (1429=2008م)، ويقع في (112) صفحة مكونة من إهداء وشكر فالمقدمة، ثمّ أربعة فصول تليها الخاتمة، وعلى غلافيه صور لأسواق ثادق، وفي داخله أزيد من مئة عنوان فرعي.
يتحدث الفصل الأول عن تسعة عشر عامًا قضاها المترجَم له في ثادق منذ ميلاده عام (1319) حتى غادرها عام (1338)، ويعبُر الفصل الثاني بخمس سنين من حياة صاحب السيرة بين عامي (1339-1344) أمضاها في عدة بلدان خليجية، ثمّ يقف الفصل الثالث مع ست وأربعين سنة صرمها في الزُّبير من عام (1344) وحتى عام (1390)، وآخر الفصول عن عودته إلى بلاده وسكنه في الرياض ابتداء من سنة (1390) حتى وفاته عام (1404).
ويصف الكتاب حياة الجدية البالغة حدّ العناء التي عاشها الآباء والأجداد وذاقوا مراراتها، كما يصور مدينة الزُّبير تلك القطعة النجدية المغروسة في جنوب العراق؛ فمساجدها وعوائد أهلها وأجوائها وموقفها من البدع والدخان لا تختلف عما في موئلهم ومرابعهم النجدية مع مساحة أوسع من الانفتاح، وإقبال أكبر على التعليم والتواصل مع العالم، ولخصوصيتها استثناها العثمانيون والملكيون من أنظمتهم ورسومهم، وزارها الملك سعود مرتين الأولى خلال ولايته للعهد و الثانية خلال حكمه، وافتتحت المملكة في البصرة قنصلية لمواطنيها في الزُّبير الذين بلغ عددهم عام (1367=1947م) خمسة وثلاثين ألف إنسان.
في السيرة أيضًا لحظات مؤلمة لبطلها إبان وفاة والده وشقيقه سنة الرحمة المشهورة بانتشار وباء الكوليرا عام (1337) وهي سنة حاضرة في الذاكرة العالمية والنجدية لكثرة الموات فيها حتى انقرضت أسر وأغلقت بيوت، ثمّ وفاة والدته التي لم تبرح المملكة مع بناتها، فرحيل ابنه إبراهيم مبكرًا، ووفاة زوجته أم حمد بسبب المرض، وفاجعة موت ابنه عبدالرحمن بحادث سير، وهذه الوفيات خلال أوقات تتقارب وتبتعد، وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
كما لا يخلو السرد من حنان الأب على بنيه وحسن تربيته لهم ومتابعة شؤونهم، فالدراسة مهمة حتى لو فقد الأب الدخل الذي يكتسبه الابن الدارس، وتعليم الأولاد مقدم لدرجة السفر من أجل الظفر ببعثة كما فعل الوالد مع نجله المؤلف، ولا مناص من اجتماعهم في البيت قبيل آذان العشاء، مع تدريب على التجارة والبيع، وحرص على جودة الطعام وإحضار الفاكهة لهم في أول موسمها، والسياحة الماتعة بعد النجاح، وتأمين لوازم الدفء في شتاء العراق البارد، وكم يرهق الآباء أنفسهم لأجل فلدات الأكباد، ومهما قابل الأولاد صنيع والديهم فلن يفوا بحقهم ولا بنصفه ولا بربعه.
بينما تتناثر المواقف الطريفة هنا وهناك؛ فمنها عبث الأطفال بشجرة الترنج وتمر العجوز اللذيذ، وسرقة كيس نقود المترجَم ثمّ تعويض الله له بتدبيره الرباني، وصدور أمر أميري بحريني يمنع دخول الدواب لأسواق المنامة والمحرق، ولغرض حماية نخلة مثمرة نام السويلم تحتها كي لا يسرق العمال ثمرها لإكرام معمّم يجلّونه دون موافقة صاحب البستان، وللمؤلف قصة لطيفة انتصر فيها للرز ضد المرقوق؛ وكاد أن يفقد وجبة الطعام على إثرها بتأديب تربوي من والده.
وتحفظ حكايات السويلم نبل عجوز دوسرية عالجته في قطر بعد أن شارف على الهلاك وتركته رفقته وحيدًا على الشاطئ، واستضافة تاجر بصري للقادمين من نجد الذين عمل بعضهم في حراسة البساتين وتنظيف الأنهار، وموافقة تاجر بغدادي على بيع بضاعة للسويلم دون قبض كامل الثمن حين علم أنه من أهل الزُّبير، ومنها مواقف الشيخ إبراهيم بن عيسى الوفية مع البقية الباقية من أسرة صاحب السيرة في ثادق الذي تحفظ سيرته مواقف تؤكد نبله وعراقة أسرته.
أما كفاحه فيستبين من تحمله الباكر لمسؤولية أسرته، وعمله في الزراعة، والبناء، والغوص، والحراسة، وفي دكان قريبه الوجيه أحمد جد معالي الدكتور عبدالرحمن السويلم، ثمّ دلالًا للخضار فصاحب بقالة ومتجر مواد غذائية وصولًا إلى أعمال الصرافة وهي أولية له في الزُّبير، ومصابرته بعد خسائر ركبته على إثر صفقات كان الطرف الآخر فيها غشاشًا عديم الذمة والمروءة، ومنها متاجرته حتى في أثناء الحج وسفر السياحة، وفي بعض تجاربه كسب أكثر من مصاريف الرحلة، وفضل الله واسع يؤتيه من يشاء.
ومما يمتع القارئ شيء من خبر السفير الشيخ محمد الحمد الشبيلي الذي يرتاد مجلس السويلم إذا زار الزّبير، ويتخذ المترجَم له مرجعًا في أنساب أهل الزّبير وبلدانهم، وحين جاء للقنصلية في البصرة سبط يبحث عن جده الغائب منذ أربعين عامًا استنجد الشبيلي بالسويلم للجمع بينهما في لقاء مؤثر داخل القنصلية، ثمّ منح السفير للمسن الغائب تذكرة مرور فعاد الجد مع سبطه للمملكة ليقضي نحبه بين أهله بعد قفوله بشهور، والشيء بالشيء يُذكر فقد كان دكان السويلم بمثابة مكتب تعقيب لأهل الزّبير يضعون فيه أوراقهم الرسمية؛ فيأخذها مندوب القنصلية، ثمّ يعيدها للدكان بعد إنجاز المطلوب ويتسلمها أصحابها من هناك مجانًا.
كذلك يروي الكتاب قصة ذات دلالة؛ إذ اصطحب مدير الأوقاف بالعراق مدير أوقاف البصرة في جولة على المساجد، وصلّوا المغرب مع إمام ثمّ أمروه بتقصير القراءة في الصلاة والاكتفاء بقصار السور، وحين لاحظ الإمام أنهما ضمن المأمومين ذات مغرب قرأ في الركعة الأولى قوله تعالى: (وقالوا ربنا إننا أطعنا ساداتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا)، وفي الثانية: (ربنا ءاتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرًا)، وبعد الانتهاء من الصلاة قال المدير للإمام: نحن لا نريد اللعنة فاقرأ ما شئت، وما أعظم فرية التدخل الإداري بالصلاة والخطبة دون وجه حق شرعي المضمون والغاية.
ومن قصص الكتاب تصرف السويلم الحازم مع المدرس الذي داس على غترة أحد بنيه بقدميه أمام الطلاب، وتعليق جسد الوصي عبدالإله على واجهة الفندق الذي أقام فيه أبو حمد مع ابنه المريض وقامت ثورة عبدالكريم قاسم خلال مكوثهم فيه، والحيلة الذكية لبيع بيته في الزُّبير تجاوزًا لتعسف إجراءات الحكومة العراقية وتعديها على حقوق الناس، ومنها حكاية الودائع المالية لديه من أهل بلدته، وذكريات حججه الأربع وفي إحداها رافقهم القاضي والمحامي إبراهيم العقيل من أهل حَرْمة في الزُّبير، وشيء من خبر أطعمة العراق الشهيرة، والفرق بين مرق الحجي أحمد ومرق الكوسا، وفيها وصف لقسم الشرطة في الزّبير الذي لا يوجد فيه سوى ضابط واحد وأربعة جنود، فتوافق الناس يخفف الأعباء على الأجهزة الحكومية.
إن الله الذي اختار للمؤلف المهندس عبدالمحسن بن محمد السويلم اسمًا رائعًا راقيًا، ووالدين كريمين فاضلين من أسر عريقة، وتخصصًا مميزًا، قد وفقه لتدوين مسيرة والده ورواية جوانب من كفاحه حتى لا تندثر أخباره بالتقادم، وليعلم أنجال الأسرة وأحفادها مع جيلهم والأجيال القادمة من غيرهم عن حياة كابد صعوبتها أجداد تتقلّب ذرياتهم اليوم في نعيم ورغد ورخاء بفضل الله وحده، ولا تدوم النعم إلّا بحراستها بالشكر والحمد، وإدامة صنائع المعروف، ومجانبة المعاصي والامتناع عن المجاهرة بها إذا وقعت بضعف البشر أو ضغوط الواقع إلى أن يقضي الله بصلاح الأحوال، وأمر ربنا الحكيم نافذ لايُرد.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الاثنين 07 من شهرِ رجب عام 1441
02 من شهر مارس عام 2020م