سير وأعلام عرض كتاب

مصطفى الفقي في دهاليز السياسة!

Print Friendly, PDF & Email

مصطفى الفقي في دهاليز السياسة!

يُحسن أهل التجارِب حين ينشرون خبراتهم مع الحياة، وربما يخصص فريق منهم مؤلفًا أو أكثر عن مواقف طريفة صادفها دون أن يسرد سيرته كاملة كما صنع العالم اللغوي العراقي د.علي القاسمي في كتابين سبق لي عرضهما، ومثلما فعل الدبلوماسي العراقي الراحل نجدة صفوت في كتابه الجميل عن الحكايات الدبلوماسية، فالحياة ضمن العمل الدبلوماسي من أكثر الحيوات في الطرافة والإحراج والحيل والخوف وغيرها.

وهاهنا واحد من هذا الصنف عنوانه: دهاليز السياسة وكواليس الدبلوماسية: نوادر ومواقف، تأليف: د.مصطفى الفقي، صدرت طبعته الأولى عن الدار المصرية اللبنانية عام (2020م)، ويقع في (342) صفحة من القطع المتوسط، ويتكون من مقدمة وتسعة أبواب دون خاتمة، وهو عبارة عن مقالات متوسطة الطول، غير عسيرة على الهضم، ولا تخلو في معظمها من طرافة.

اجتهد المؤلف في الكتاب ليثبت لنا بشرية الرئيس الأسبق، والحقيقة أننا نعلم ذلك فالرسل بشر فكيف بمن دونهم، لكن من يقنع بعض الزعماء بأنهم بشر مثل شعوبهم، ولغيرهم الحق في نقاشهم وانتقادهم؟ وبدا لي أن د.الفقي سعيد بوصف الرئيس الأسبق الذي يكرره كثيرًا مع أنه جاء كرهًا في حمله ووضعه وما بعده، وهذا الوصف متعارف عليه في البلاد المتقدمة، ولذلك فقلما تُقام عندهم جنازة لرئيس وهو في منصبه.

كما كان الدبلوماسي الكاتب لطيفًا ودبلوماسيًا مع جميع الناس على مختلف أديانهم وأعمالهم واتجاهاتهم، جميل الظن بهم جميعًا، ويدعو بالرحمة للكافة؛ بيد أن هذا المسلك انقطع عند الحديث عن فصيل واحد فسلقه بلسان حاد، وكان يسعه أن يسبغ عليهم شيئًا من ثوب لطفه، ويمد طرفًا من لحاف الرحمة ليشمل أناسًا لاحول لهم ولا قوة على قراءة كتابه فضلًا عن الرد عليه.

ينتمي د.الفقي لمدينة دمنهور بلد التجارة والتدين والنوابغ؛ واشتهر أهلها بالغيرة حتى استجابت لهم الحكومة ومنعت احتفالات اليهود حول ضريح “أبو حصيرة” وما فيها من منكرات وفحش وآثام، والحقيقة أن أهل هذه المدينة أصحاب بروز علمي وفكري ودعوي، ومن أكثرهم حضورًا في الآونة الأخيرة د.عبدالوهاب المسيري صاحب المؤلفات الفكرية الباهرة عن العلمانية واليهود وغيرها.

وفي مواقف الكتاب ظهور لأكابر القرّاء والجامع الأزهر، فهم قوة ناعمة لمصر في العالم الإسلامي وغيره، ومن اللطيف احتفاء الهنود بالشيخ عبدالباسط، وافتتان أحد مشاهير القراء بشراء الببغاوات، وانجذاب الممثل العالمي عمر الشريف نحو الشيخ المفسر الشعراوي لدرجة تقليده، وفيه رواية عن دخول شهر رمضان ومحاولة العبث فيه.

كما كان للهند أثر على المؤلف؛ إذ بهرته بحضارتها وتمسك أهلها بإرثها حتى غدت عصية على التغيير، ولو كان في خرافة كحلول الأرواح في وزغة أو تقديس بقرة أو عيد خارج عن حدود الوقار، وخطف بصره لباس الهنود التقليدي وتمنى لو كان لمصر رداء شعبي تحافظ عليه، وأشار لعلاقة الرئاسة الهندية القوية بعبدالناصر والفاترة بالسادات لدرجة أن أنديرا غاندي لا تحفل برسائله إليها.

بينما يوضح الكتاب غاية الفن عند بعض الأنظمة، فالحرس الجمهوري التابع لعبدالناصر يفتتح إذاعة خاصة لأغاني أم كلثوم، ويطلب عبدالناصر بنفسه من رائد المسرح يوسف وهبي الطواف في طول الجمهورية وعرضها لأداء المسرحيات المضحكة كي يتجاوز الناس أثر هزائم عام (1967م)، والواقعة يرويها الأستاذ محمد حسنين هيكل الكاتب المقرب من عبدالناصر، ومن هذا الباب أصبح مبارك سادس حاكم لمصر يستقبل الموسيقار عبدالوهاب استقبالًا خاصًا.

وفي الكتاب روايات عن الأخطاء الناجمة عن تشابه الأسماء حتى ساقت شخصًا للوزارة وهي ليست له، وأربك التشابه سكرتير مبارك فاتصل بالشيخ محمد السليمان وهو من رجالات ديوان الملك فهد، والمطلوب حسب أمر الرئيس كان الاتصال بالشيخ محمد نجيب واعظ القوات الجوية؛ فتدارك مبارك الموقف بسؤال عابر للسليمان ثمّ وبخ سكرتيره.

ومن عجائب المواقف أن سفير مصر في السعودية استغرق بالعمرة وشعائرها ونسي الرئيس ومرافقيه دون أن يكون أمامهم في الحرم المكي، وحين قال الرئيس: لم لا يعتمر السفير أي يوم آخر مادام يقيم في السعودية؟! قيل له: هو يسكن في الرياض وليس في جدة، وتكرر موقف مماثل حين تأخر السفير نفسه على موعد مع الرئيس لأنه سمع آذان الظهر فرأى أن منادي الله أولى بالإجابة، فأنقذه الله بتدبيره الرباني من المؤاخذة، وأجرى الأمور وكأنه لم يتأخر.

أيضًا يروي المؤلف طرفًا من سلوك حكام أصحاب عنف وغلظة، فحافظ الأسد لطيف خفيض الصوت ويقلق من الميكروبات، ويقسم بعض رجاله أنه ما عرف عن مذابح حلب! وصدام حسين يحمل بنفسه صحن البطيخ للفقي، ويغلق الستائر خلف أسامه الباز كي لا تؤذيه الشمس، ويطرح العباءة على كتفي مبارك، ولا يصافح رئيس كوريا الشمالية أحدًا قبل تطعيمه، وتعد زيارة القذافي عقوبة فلديه ختم الإرهاب يدمغ به زائريه.

ومن الروايات أن بواب العمارة التي سكنها صدام إبان لجوئه لمصر تعجب أن مثل صدام وجد عملًا! ونصح عدنان مخلوف الوفد المصري بالتعامل مع المعارضين بالحل الطبيعي وهو الحل الحموي عامله الله بما يستحقه، وأجبر مبارك الفقي على أكل بطيخة كاملة قبل منحه إجازة، وحين التهمها لم يعد للإجازة فائدة لأنه أصيب بمغص ووعكة تمنعه من السفر.

ويتجلى الكاتب بين فينة وأخرى فيلقي حكمًا عابرة، منها أن الحكام- ويقصد الظلمة منهم- يمضون وتدفع الشعوب الفاتورة، ومن التصاق يخبرنا د.مصطفى أن حساسية المسؤولين للنقد مرتفعة، وأن الأمن دائمًا مغمض العينين غائب الضمير ولمقولته هذه قصة حزينة مكتوبة، ويجزم أن ابن المسؤول الكبير يصبح باهرًا إذا تربى على القيم، وأما إذا أهمل وتولاه الخدم وبعض موظفي مكتب والده فسيكون بلاء ماحقًا، ومن خبرته يقول: إن أخطاء المراسم حساسة وتودي بمنصب صاحبها، ويؤكد أن الكيمياء الشخصية بين الزعماء عظيمة الأثر في نجاح المفاوضات وتحسين العلاقات، ويوصي ذوي المناصب ألّا يتعاملوا بعفوية مع التصريحات العامة، وأن يكونوا مثل من لسعته الشوربة فنفخ في الزبادي.

وفي الكتاب وقائع عن تجسس السفارات على بعضها، وتعاطف البابا مع طارق عزيز فقط، ورقص رئيس جمهورية أفريقي في حفل رسمي، وتجميد ليبيا لاستثماراتها في النمسا بسبب تأخر صدور تأشيرة سيف القذافي، وفقدان الزعماء للحياة الطبيعية نتيجة الحراسة وتجمهر الناس حولهم وروى حولها حكايات عدة، كما عرج على المصاهرات بين أقطاب المناصب من الرئاسة فما دونها، ومن الفضائح مكاتبات الساسة الأجانب لبلدانهم عن البلاد التي يعيشون فيها؛ فاللورد كيلرن يسمي الملك فاروق الولد، ويتابع الأجانب الأقليات وأخبارهم بشغف خال من البراءة.

من تجاربه أن تجنيد الدبلوماسي الشاب يتم ولو من خلال حادث تصادم مفتعل بين سيارتين، ومنها أنه ركب سيارة فارهة تشبه سيارة الرئيس وتسبق موكبه فظنها تكريمًا ثمّ فهم أنه قربان يُضحى به فيما لو كان الموكب مرصودًا لاغتيال أو تفجير، واعترف بخوفه من الطيران والمرتفعات، وذاق طعم حلوى أم علي مع المضيفات على متن طائرة الرئيس وقبله حتى اكتشفه، ولأنه كاد أن يقع في مأزق أسري ينصح باستخدام هاتف نقال ذي غطاء حتى لا تسمع الزوجات أحاديث الأزواج مع أصحابهم، ويفترض أن أي حديث هاتفي يوجد فيه طرف ثالث يسمع.

ويعد د.مصطفى أن يوم السادس عشر من يناير هو يوم ميلاده الثاني وربما أهم من الرابع عشر من نوفمبر يوم ميلاده الحقيقي المتوافق مع يوم ميلاد مشاهير كثر، وسبب ذلك يعود لقصة تحبس الأنفاس أوردها في كتابه، ومن الموافقات التي لم أقصدها أني أكتب هذه المقالة في تاريخ يتوافق مع يوم ميلاده الأهم، والله ينقذنا وينقذه من الشرور والأحداث العصيبة.

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 21 من شهرِ جمادى الأولى عام 1441

16 من شهر يناير عام 2020م 

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)