سياسة واقتصاد عرض كتاب

حكايات وخفايا دبلوماسية

حكايات وخفايا دبلوماسية

ما أجمل أن يكون السفير الذي يمثل بلاده أديباً نهماً للمعرفة، حريصاً على حسن تمثيل ثقافته وأناسه، وأن يحتفظ بفوائد من فترات تمثيله يرويها للأجيال كي يقبسوا من خبرته وتجربته؛ فالتجارب عقل ثان وثالث. ويجتهد بعض السفراء بكتابة مؤلفات عن حضارة دول عملوا فيها كما صنع السفير السعودي د. محمد البشر في كتابيه عن الأندلس والصين.

بيد أن الأنفع هو ما فعله السفير العراقي أمين المميز(1912-1997م) في كتبه الأربعة المميزة كاسمه عن تجاربه الدبلوماسية والحياتية في أمريكا، وبريطانيا، والسعودية، ثم في بلدته بغداد التي ضمنَّها فصولاً عن خبرته في سوريا، وفلسطين، والأردن، ومصر، ومع الأسف فإن مؤلفات هذا الرجل البغدادي أضحت نادرة مع قيمتها التاريخية والأدبية.

والكتاب الذي أستعرضه اليوم من الصنف الثاني؛ وعنوانه: حكايات دبلوماسية، من تأليف الدبلوماسي البغدادي نجدة فتحي صفوة (1923-2013م)، وصدرت الطبعة الرابعة منه عن دار الساقي عام(2009م)، بعد أربعين عاماً من نشر الطبعة الأولى من الكتاب عام(1970م) عن دار النهار البيروتية. ويقع في (300) صفحة من القطع المتوسط، ويتكون من مقدمة وثلاثة وعشرين فصلاً؛ ولكل فصل حكاية منفردة.

أفاد المؤلف من خبرته الدبلوماسية وتنقلاته ممثلاً لبلاده في عواصم مهمة هي لندن، وعمان، والقاهرة، وجدة، وباريس، وأنقرة، وواشنطن، وموسكو، على التوالي ثم وكيلاً لوزارة الخارجية؛ فسفيراً في الصين قبل أن يستقيل ويتفرغ للكتابة والتأليف، وله مؤلفات ثمينة للغاية فيها ترجمة لوثائق مهمة جداً؛ وقد مات قبل أن يتم أضخهما فيما أعلم، وليت أن ورثته يسعون في إعادة طباعة قديمه، وإصدار ما هيأه للطبع قبل رحيله.

كتب الدبلوماسي العريق مقدمة للتعريف بالحياة الدبلوماسية؛ التي يظن البعض أنها مقتصرة على حضور الحفلات أو إقامتها فقط، ونقل عن سفير إيطالي وصفه للدبلوماسية بأنها كرسي من الدرجة الأولى في مسرح الحياة؛ ويؤكد أ.نجدة هذا الوصف مشيراً إلى أن الدبلوماسي يقفز أحياناً من خانة المتفرجين إلى الخشبة ليكون البطل الأوحد عليها! وقصص هذا الكتاب مما عاصره المؤلف أو اطلع على جانب منها، وجميعها كانت لدبلوماسيين اعتلوا خشبة المسرح؛ ولم يكونوا مجرد متفرجين.

وأول الحكايات عن احتفال بريطاني سنوي بذكرى شكسبير، حيث دُعي له ممثل الاتحاد السوفيتي لأول مرة عام(1926م)، وكانت الدعوة نتيجة لخطأ موظف صغير في الخارجية البريطانية، ولم تكن علاقات البلدين حسنة حينذاك، ولذا صُعق الإنجليز لموافقة الممثل السوفيتي على الحضور؛ وحاولوا ثنيه قدر المستطاع دون جدوى، وحين حضر الاحتفال تجاوزوا اسمه في سجل الكلمات؛ لكنه أصر على إلقاء كلمة في الحفل. وسيطرت الحادثة على الصحافة البريطانية منذ علمت بها، وتجمع عدد كبير من الجماهير لرؤية الوفد السوفيتي، وكان الممثل لسفارة موسكو يحمل حقيبة زوجه؛ وقد شاع بين الجماهير أنها مليئة بالقنابل! ولحقائب النساء فائدة لطيفة ضمن إحدى حكايات الكتاب.

والثانية عن طربوش المفوض المصري لدى تركيا الذي كاد أن يعصف بالعلاقات بين البلدين؛ ففي مساء 29 أكتوبر 1930م أقامت الحكومة التركية احتفالاً بيومها الوطني برعاية الغازي مصطفى كمال باشا-قبل أن يتسمى أتاتورك- وقد وصل إلى قاعة الاحتفال وهو ثمل من السكر، وشرع يتكلم دون انقطاع خلافاً للمعتاد في مثل هذه المناسبات؛ وعبثاً حاول رئيس مجلس النواب إسكات رئيسه، أو تقليل اندفاعه نحو الكلام والتدخين وشرب المسكر. ثمَّ فاجأ أتاتورك السفير الأمريكي بطلب غريب حين دعاه إلى إلقاء كلمة، وكان الأغرب رفض السفير الأمريكي إجابة طلب رئيس الجمهورية!

ولما رأى الغازي السفير المصري لابساً طربوشه حرك الطربوش بلطف قائلاً: قل لمليكك إن مصطفى كمال أمرك ألا تلبس الطربوش! ولولا حضور مندوب صحيفة إنكليزية لما عرف أحد بالخبر، مما جعل الحكومة المصرية تستفهم من مفوضها، وتتراسل مع الحكومة التركية إلى أن انتهت أزمة الطربوش التي امتد النقاش فيها من مصر إلى البرلمان العراقي، وقد حجب الطربوش الترقيات عن صاحبه، وحرمه فرصة تمثيل بلاده في واشنطن.

ثم تحدث المؤلف عن قصة اغتيال قنصل العراق في تبريز عبد الوهاب درويش، وهي قصة أليمة حدثت عام(1941م) نتيجة مصادفة غريبة، وبعدها حكاية ملحق إنجليزي شاب يعمل في سفارة بلاده في موسكو حضر مسرحية من أربعة فصول؛ ثم عَلِق بفتاة روسية تجيد الإنكليزية؛ فتزوجها وحملت منه، لكنه نقل من موسكو، ومنع ستالين الروسيات من الالتحاق بأزواجهن الأجانب، ولم تتدخل الخارجية البريطانية لحل قضيته الشخصية، وظل المسكين يتراسل معها بأكثر من أربعمائة رسالة، إلى أن مات ستالين وألغى خلفه قراره، والتقى الزوجان لينتهي الفصل الخامس من المسرحية بعد أن دام سبع سنوات عجاف!

ومن اللافت للنظر في الكتاب واقعة تهريب مخدرات ضخمة جداً إلى أمريكا عام (1961م)، وقد أفاد تجار المخدرات من الحماية الدبلوماسية لسفير جواتيمالا في بلجيكا وهولندا، وروى المؤلف تفاصيل هذه الواقعة الحرجة، وكم يحتاج موظفو الجمارك والمؤسسات الأمنية إلى تدريب خاص حول التعامل مع الهيئات الدبلوماسية؛ كي لا يقع البلد المستضيف في مأزق سياسي، وحتى لا يكون البلد مسرحاً لعبث الدبلوماسيين تحت ستار الحماية والمواثيق.

وفي الكتاب روايات غرام أحد أطرافها دبلوماسي؛ وانتهت في الغالب بابتزاز الدولة المضيفة لموظفي السفارات بعد أن وقعوا في مصيدة امرأة، أو اُستدرجوا إلى تصرفات آثمة، فيضطر الدبلوماسي إلى تسريب وثائق سرية أو مهمة؛ وهذا التصرف كارثة قد تودي بالدبلوماسي والسفير وربما الوزير.

ومن هذه القصص ما حدث لدبلوماسي أمريكي في وارسو عام(1961م)، ومثله وقع للسفير البريطاني في موسكو عام(1969م) بيد أنه سارع بإخطار حكومته حتى لا يضر بلاده؛ وحسناً فعل، فقد استرجعته حكومته مباشرة؛ وإن هالها وقوع دبلوماسي طويل الخبرة ضحية لفتاة حسناء تعمل لصالح المخابرات السوفيتية. والقصة الثالثة لدبلوماسي إنجليزي شاذ وساذج؛ صورته المخابرات السوفيتية وابتزته وأخذت منه معلومات محددة عام(1955م)، ومنحته مقابلاً ماديا.

بيد أن أغرب غرام رواه المؤلف هو ما جرى لدبلوماسي فرنسي في الصين، حيث افتتن بمغنية وراقصة صينية، ثم اختلى بها كثيراً في لقاءات خاطفة تحت جنح الظلام لدواعي السرية؛ ونزولاً عند رغبة الراقصة التي تحمل من مكونات ثقافتها الحياء والخجل! ثم نقل الفرنسي للسعودية وأخبرته رفيقته بحملها منه ثم إنجابها طفلاً، ولذا سعى للعودة إلى بكين ونجح في ذلك؛ لكن حدث مالم يكن بحسبانه، حيث ألقى الحرس الأحمر القبض عليهما، وهُدِّد الدبلوماسي الفرنسي بمعاقبته وصديقته مالم يزود بكين بالتقارير السرية في السفارة، واستجاب لذلك واستمر على خيانته لبلده حتى بعد مغادرته بكين.

وبعد ستة عشر عاماً افتضح أمره بعد أن زارته الراقصة وابنه في باريس، وبعد الفحص تبين أن الولد ليس من صلبه؛ فاعترفت الراقصة بأنها أخذته لقيطاً من ملجأ، لكن الأدهى أن الراقصة كانت رجلاً حسب الفحص الطبي! وحين تألفت محكمة من سبعة قضاة لمحاكمته بالخيانة العظمى، انفجر أحد القضاة غاضباً في وجهه لا بسبب خيانته الثقيلة؛ وإنما لأنه أساء لرجال فرنسا بعجزه عن التمييز بين الرجل والمرأة! وبعد هذا التجوال الفاضح في دهاليز الدبلوماسية يحق لكل سفير أن يفحص موظفيه، ولكل وزير خارجية أن يتفقد سفراءه، حذار أن يكونوا فرائس للحسان أو المخدرات.

ومن ضمن الفصول المثيرة رواية عن أشباح في سفارة تونس بموسكو، مما اضطر سفير تونس وزوجه إلى حزم حقائب الرحيل والعودة إلى بلدهما؛ لصعوبة تحمل القصص المروعة عن تاريخ مقر السفارة؛ الذي كان يستخدمه وزير داخلية ستالين؛ ويكفيك من شر سماعه، فكيف بستالين الدموي ووزير داخليته المجرم؟ وعندما حل سفير تونسي جديد أحضر مقرئاً يختم القرآن في المبنى ليطرد أشباحه وتطمئن زوجه الواجمة. وأورد المؤلف الغيور قصصاً عن الدعاية الصهيونية التي تقوم بها السفارة الإسرائيلية في موسكو وغيرها، ولا شك لدي بأن سفارات الدول العقائدية كإسرائيل وإيران والفاتيكان تمثل مراكز دعاية ودعوة، فضلاً عن كونها مثل غالب السفارات أوكاراً للاستخبارات.

والحضور السوفييتي والإنجليزي في الحكايات باد للعيان، وكم من مرة كان البلدان قطبي الحكاية، وقد أضاف الكاتب فصلاً ماتعاً عن مولوتوف وزير خارجية ستالين، وهذا اسمه الحركي ومعناه “المطرقة”، وكان يرأس صحيفة برافدا التي تعني “الحقيقة”، وهي صحيفة صغيرة أضحت بعد الثورة البلشفية من أهم صحف البلاد والعالم، ويرتبط باسمه قنابل صنعها الفنلنديون وسموها “مولوتوف” نكاية به، وهي تستخدم بكثرة في الاحتجاجات الشعبية لسهولة صنعها.

كما عقد فصلاً خاصاً عن اللورد ترافليان سفير بريطانيا لدى العراق في عهد عبد الكريم قاسم، وكان السفير يتصرف بغطرسة مزعجة وكأنه مندوب سامٍ وليس سفيراً في دولة ذات سيادة! ومن همة هذا السفير أنه تعلم اللغة الروسية وأتقنها حال علمه بنية الخارجية البريطانية لتسميته سفيراً في موسكو مع أنه سيتقاعد بعد نهاية سفارته، وقد تعجب المؤلف، ونحن نتعجب معه من تكاسل الدبلوماسيين الشباب عن معرفة لغة البلاد التي يمثلون دولهم فيها؛ فضلاً عن ثقافة أهلها وعاداتهم.

وفي الكتاب حكايات أخرى منها تسمم السفيرة الأمريكية في إيطاليا بالزرنيخ، وبلاغة الخطيب الروسي المصقع في الأمم المتحدة، وقصة جمال عبد الناصر مع كلمة الوداع لجورج واشنطن التي احتج بها على السفير الأمريكي في القاهرة، وانتحار السفير الكندي في القاهرة هربرت نورمان عام(1957م) هروباً من “المكارثية” التي لاحقته بتهمة مناصرة الشيوعية، ومن أمتع ما في الكتاب الحديث عن خروشوف الذي رفع حذاءه مرتين في وجه بعض المتحدثين في الأمم المتحدة، ثم سيرته العجيبة بعد أن خلف ستالين في الحكم ثم انقلب على مبادئه.

وكذلك جرأة المؤلف بكتابة رسالة لزوج نائب الرئيس الأمريكي اعتراضاً على دعمها اليهود، وكان للرسالة دوي وذكر، وهي مما يحمد لهذا الدبلوماسي الشهم. ومن نوادر الحكايات هدية ستالين الغريبة للسفير البريطاني قبيل مغادرته موسكو، وحرب المذكرات بين السفراء المتقاعدين لبريطانيا وألمانيا، وهذه الفصول عذبة سلسة؛ أترك الحديث عنها كي ينشط القارئ الكريم للنظر في هذا الكتاب المسلي في خضم الكتب الجادة.

 وفي تاريخنا الدبلوماسي المحلي سفراء لم يشتهر خبرهم بين الناس؛ وقد كانوا من طراز فريد ليت أنهم قيدوا تجاربهم قبل أن يودعوا عالمنا؛ ومن أمثلتهم الشيخ عبدالعزيز العبدالله الصقير(1315-1391)، والشيخ فوزان السابق الفوزان (1275-1373)، والشيخ محمد الحمد الشبيلي (1330-1409)، والشيخ إبراهيم بن عبدالله السويل (1334-1397)، ولن نعدم من الأحياء فوائد دبلوماسية خاصة ممن عمل في بلاد لها ما يميزها؛ مثل السفير علي بن عواض عسيري سفير السعودية في باكستان ثم لبنان فباكستان، وكذلك وزير الإعلام الحالي د.عبدالعزيز بن محي الدين خوجه الذي مثل المملكة سفيراً في عواصم الجمال في الرباط وبيروت وأنقرة وموسكو.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 23 من شهرِ شوال عام 1435

19 أغسطس 2014 م

Please follow and like us:

3 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)