البصيلي وشيء من أسرار الفريق!
يتداول الناس حكايات مضيئة عن عدد من فضلاء المجتمع مثل معالي الشيخ محمد الحمد الشبيلي، ومعالي الفريق أول عبدالله بن راشد البصيلي، ومعالي الدكتور عبدالله بن عمر نصيف، وسعادة الملحق الثقافي في سفارة المملكة بأمريكا الشيخ عبدالعزيز بن محمد المنقور وغيرهم، وسيرهم الملهمة بحاجة للمزيد من الدرس والتأمل خاصة أنهم لم يكتبوا عن أنفسهم شيئًا، رحم الله الأموات، وأمتع بالأحياء على صحة وخير.
ومن المعتاد أن يحيط الغموض بحياة كثير من الساسة والعسكريين والدبلوماسيين، وهذا أمر مفهوم في جميع البلدان أيًا كانت طبيعة الإدارة والحكم فيها، فمع كثرة ما يصدره زعماء العالم وقادة أجهزته العسكرية والأمنية ورجال الحكومات من مذكرات وسير ذاتية؛ إلّا إنها لا تكشف جميع ما يتطلع له القراء على صعيد المعلومات ومسيرة الأحداث فضلًا عن غيرها من تحليلات وأسرار ومفاتيح شخصية؛ مما يجعل الباب مفتوحًا لمزيد من البحث والاستقصاء.
لذا أقف اليوم مع سيرة عسكري جمع النجاح والفلاح بإذن الله، هو معالي الفريق أول عبدالله بن راشد البصيلي (1342-1432) الذي تعود جذوره الاجتماعية إلى مدينة البكيرية وأسرة الجربوع وقبيلة شمر، ونشأ في بيئة فقيرة كادحة فلم يصرفه هذا الحال عن الأمل؛ ولم يحل ماضيه الصعب دون نمو بذرة العطاء فيه حين تتهيأ أسبابه؛ فصار من سادات المنفقين، وغدت آخرته أولى عليه من دنيا الناس، ولا غرابة أن يصنع رجل ذلك وقد وهب أبوه ملابسه الخارجية لسائل استوقفه في الطريق وطلبها منه دون سابق معرفة، وربما أنها كانت نصف ما يملكه من لباس أو ربعه.
كما أن السعي وراء الكسب القليل في أعمال منهكة لصبية صغار لم يمنع الفتى من الدراسة الأولية على يد الشيخ عبدالرحمن السالم في أحد كتاتيب البكيرية، وإن تعليمًا يبدأ بالقرآن العزيز وهو الكتاب المبارك لتعليم مؤثر كثير النعم حتى لو لم تشر إليه مؤتمرات التعليم، أو لم تحفل به دراسات التطوير، أو لم يرد ضمن الشعارات الجميلة؛ فكتاب ربنا يشهد لنفسه، ويشهد له تاريخنا، وتشهد له مخرجات المدارس القرآنية في قديم الأزمان وحديثها.
وحين انطلق الشاب يبحث عن مصدر رزق أدركه العناء حتى وجد مدخلًا وحيدًا فسلكه من أول درجاته دون تراخ أو خمول، ثمّ بلغ باجتهاده بعد فضل الله أعلى المراتب، وتلك نتيجة الإصرار مع الاستمرار والمبادئ المتينة والتوفيق بيد الحكيم الخبير، وكم من حريص شحيح عوقب بالحرمان، وكم من مجتهد بلا جشع أو استئثار نال أبعد مما وقع في حسبانه، والمقادير تسيرها إرادة البصير العليم.
أيضًا لم يغرق الفريق في أمواج الغطرسة التي تدرك حديثي النعمة والعهد بالمناصب، والتفت لماضيه حامدًا مولاه على ما أولاه من مكارم دون انشغال بتفاصيل سالفة وعثرات عابرة، ولم يستنكف البصيلي عن دواعي الرحمة المغروسة في قلبه، فكان رحيمًا بمن حوله، فهو بالمريض رفيق، ومع مرافق المريض متعاون، وعند التقصير مصلح، ومع صاحب الحاجة نصير، والقصص في ذلك كثيرة، ولا عجب فيها لأن والده سامح الرجل الذي دهسه بالسيارة ومات بعد الحادثة بأيام، والعفو عند المقدرة من خصال الكبار؛ ولا يلقاها إلّا ذو حظ كبير.
بينما يمكنني الإشارة إلى ملامح بارزة ساقته سوقًا إلى أعلى المراتب؛ فمنها حرصه على المصلحة العامة التي لاحظها فيه كبار المسؤولين في مواقف تبين خفايا الإنسان ومعدنه، ثمّ جديته التي جعلته يستمر في العمل قريبًا من ستين عامًا دون إجازة خاصة، وآخرها انصرافه عن اصطناع الفرصة للظهور أو بهرجة الأداء؛ وظهر ذلك إبان رئاسته للجنة عسكرية متزامنة مع انتهاء أحداث اليمن، فتوقف عن إرسال التقارير للأمراء إلّا ما كان لضرورة، خلافًا لسابقه المبتلى بفيضان من تقارير استعراضية نجم عنها عطب مستقبله المهني خلافًا لمراده، ولأجل ذلك اقتنع به الملك فيصل، وواصل العمل مع الملك خالد، ورفض الملك فهد استقالته ثمّ جعله مستشارًا بعد تكراره الاستعفاء، وشهد له الملك عبدالله بالخيرية والسمو.
وللرجل جهود تطويرية لا تخفى، فمع أن جهاز الحرس الملكي قائم قبله، إلّا أنه يكاد أن يكون المؤسس التنفيذي له، وأبرز رئيس في تاريخه، وصاحب منجزات فيه خلال عهود ثلاثة ملوك (1386-1407)، إذ قربوه وأحبوه ومنحوه الصلاحية للعمل والتحسين ثقة بأمانته وقدراته، وتقديرًا لرغبته الصادقة بتطوير الجهاز وزملائه دون حسابات شخصية خاطئة تحذر من زيادة المنافسة؛ فتأهيل البديل أعظم نجاح للقائد، وأدعى سبب لترقيته؛ بيد أن بعض بني آدم لا يعلمون!
أما القصص المروية منه أو عنه فكثيرة، إذ ذكر في لقاء تلفزيوني أن الملك فيصل شاهد شخصًا يدعي أنه عيسى بن مريم فتولى الملك بنفسه إرجاع المدعي إلى صوابه، وروي عن البصيلي أن السادات أخبر الملك فيصل بأن زعيمًا عربيًا عرض عليهم مبلغًا ضخمًا شريطة أن يسيئوا للمملكة؛ فقال الملك من فوره: خذ المبلغ ونتحمل لأجل مصر الإساءة! واستضاف الفيصل شاه إيران الذي ظل يشرب القهوة العربية دون توقف لأنه لا يعرف كيف يعلن اكتفاءه منها، وفي الغد أخبر الشاه مضيفه أنه لم ينم وظل ساهرًا طوال الليل.
كذلك له مثلها مع الملك خالد، منها أن الملك لمح آثار العزوبة العابثة في وجه جندي شاب، فقال له: لم لا تتزوج؟ وأعطاه مبلغًا من المال واقتدى به نائباه الأميران-الملكان- فهد وعبدالله، ثمّ أمر الملك البصيلي بمنح الجندي إجازة للعرس، وكان الملك في نزهاته البرية يطلب من الفريق رحمة الجنود من البرد، ودعوتهم للصلاة جماعة معه، وللملك خالد عمومًا مواقف، وإجابات، لو جمعت لكانت ذات قيمة عالية في أدب الملوك وقصصهم.
وربما يعود خلود البصيلي لما أنجزه من أعمال خيرية في حقول شتى، وفي أماكن كثيرة داخل المملكة وخارجها، فمنها بناء مئات المساجد، وعدد من المدارس، والمستشفيات، ومراكز التأهيل، وتأمين الأجهزة الطبية، وافتتاح العيادات التخصصية، وإصلاح المقابر، ومساندة الأعمال القرآنية، وفعل الخير بهمة حيثما وجد إليه سبيلًا.
فبعد أن سمع عن اختلاط الطلاب بالطالبات في مدارس بعض البلدان العربية آلمه ذلك؛ ودفعه لتشييد مباني حديثة مستقلة للجنسين كي تعين على التعليم دون مآثم، كما سيّر الحافلات المليئة بالمؤن والملابس، وحفر الآبار، وأوقف الأوقاف، وصنع ذلك خفية حتى ظهرت للعيان من كثرتها، ولعله أن يكون لغيره إمامًا، ومن وفائه تخصيص بعض أعماله لزوجه الأولى، ولكبرى بناته، وقد تقدمتا عليه إلى الله والدار الآخرة، ومما يسترعي الانتباه أن أنجاله وأسرته كانوا خير معين له في مساره صوب الإحسان وصنائع المعروف، وكم من أولاد وأزواج كانوا فتنة لكبيرهم وسببًا لصدوده عن الخير!
ويمكن لمن أراد التوسع عن قصص الفريق البصيلي ومبراته أن يقرأ كتابًا عنوانه: البصيلي: حارس الملوك عملاق الخير، تأليف: بدر الخريف، صدرت طبعته الأولى عام (1429)، ويقع في (٨٤) صفحة، أو يتابع حلقة من برنامج وثائقي بعنوان الراحل على قناة روتانا قدمها الإعلامي محمد الخميسي، أو يبحث عن حلقة من برنامج حواري على قناة الإخبارية بعنوان رجال في الذاكرة من إعداد وتقديم الصحفي حاسن البنيان، وإن مجتمعنا ليزهو بمن أنجبهم من أهل النبل والمثل العليا، ولن يعجز عن صناعة أمثالهم أو أحسن منهم، فالأرض الطيبة تخرج النبات الطيب، والثمر اليانع.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الخميس 22 من شهرِ ربيع الآخر عام 1441
19 من شهر ديسمبر عام 2019م
One Comment