طرائف أصحاب المآثر
ظفرت أخيرًا بنسخة من كتاب عنوانه: طرائف النوادر عن أصحاب المآثر، تأليف: د.علي القاسمي، أصدرته منشورات القاسمي بالشارقة عام (١٤٤٠-٢٠١٩م) ويقع في (٢١٩) صفحة، ويتكون من تقديم ثمّ ست وأربعين مقالة فسيرة علمية للمؤلف الذي لم تمنعه مؤلفاته الغزيرة في المعجمية والمصطلحية والتربية والتعليم والفكر والنقد والقصة والرواية والترجمة فضلًا عن تناول دراساته وأعماله وتحليلها عبر مئات المقالات والكتب ورسائل الماجستير والدكتوراه من أن يصدر كتابًا ثانيًا في الطرائف التي واجهته عوضًا عن تأليف سيرة ذاتية كاملة.
يمتاز هذا الكتاب مثل سابقه بعنوان طرائف الذكريات عن كبار الشخصيات بورود أسماء كثيرة من العلماء والكتاب والأدباء والساسة، وينفرد بكثرة عناوين الكتب المذكورة فيه من تآليف أبناء المغرب البهيج، وحين اشتريت الكتاب نظرت فيه ولم أتركه حتى فرغت منه بعد سويعات، وتفاعلت مع محتواه بالضحك -كعادتي التفاعلية بما يناسب خلال القراءة- حتى سألني ولدي الصغير بتعجب: الكتاب للثقافة أم للضحك؟!
ففي الكتاب نساء نستشعر من وصف العالم اللغوي جمالهن وأناقتهن وثقافتهن وغنجهن، ويتطاير من بين الكلمات شذى العطر الأخاذ، بل ترقص الحروف كمشية بعضهن، ومعهن شابة لا تبتسم بيد أن أعضاء قوامها الرشيق فرحة ضاحكة، وآمل ألا تغضب أم حيدر مما أورده العالم الأديب؛ فبعضهن مضى على معرفتها نصف قرن، ومنهن غربيات بعيدات، وفيهن من فاضت روحها بعد تفجيرات آثمة كبلقيس زوجة نزار قباني، ومعهن ديزي تلك التي تشاور المؤلف ظنًا منها أنه مكتهل أو شيخ أشيب فإذا به شاب في عمرها حتى قالت لما قابلته بلهجة عراقية: فضحت نفسي، وبقية أخبارهن في الكتاب.
كما يحوي كتابنا أخبارًا سياسية وتاريخية عن العائلة الحاكمة في المغرب، وموقف الملك من خلافات الشاه مع العراق، وامتناعه عن حضور احتفالات الشاه الذي تفاخر بألفي عام من التاريخ الفارسي متناسيًا الإسلام وحضارته، ومنها خبر طريف عن استنجاد ملك الأردن الحسين بالملك الحسن ليرسل “فقيهاً” مغربيًا شهيرًا حتى يعالج بالقرآن امرأة في القصر الهاشمي ابتليت بالصرع ولم يفلح الطب بعلاجها فشفيت، وللقصة بقية.
ومن روائع السيرة حكاية الدكتور محمد ناصر عميد كلية المؤلف إبان دراسته الجامعية، وكيف تحولت محاضرته فجأة ودون تحضير مسبق من نظرية المُثل لأفلاطون إلى حديث عميق علمي تاريخي حول تاريخ القبعة وآداب اعتمارها، وسبب هذا التحول سوء تصرف عريف الفصل الذي كان يلبس قبعة دون أن يلتزم بضوابط ارتدائها، وبعد نهاية محاضرة العميد أفصح الطالب عن سر أليم يمنحه العذر على أخطائه المرتبطة بالقبعة وزيادة.
بينما يظهر في المآثر تقدير أعمال التعليم والبحث والتأليف، وعظم قدر المعلم في النرويج لدرجة أن أستاذة استصدرت للمؤلف العراقي تأشيرة خلال ساعتين بعد أن عجز دبلوماسي عن استخراجها مع محاولاته المتعددة أسابيع متتالية، والشيء بالشيء يذكر فأهم شيء في مدارس النرويج الابتدائية هو المكتبة، وأهم الدروس فيها هي حصص القراءة وليست الرياضة أو الموسيقى، ولأستاذنا الكبير أعماله الموفقة في هذا الميدان؛ وهي من بواكير تآليفه.
وفي الكتاب طرائف قد تخرج قارئها عن الوقار مثل قصة الشرطي العراقي الذي استوقف سيارة على الحدود ليبتز ركابها ثمّ هوى يقبل أقدامهم حين علم أنهم وزراء الداخلية والخارجية والمالية، ومنها اعتراف المؤلف بتواضع أنه يفقد النباهة لدرجة السذاجة حتى أنه سأل خلدون الحصري عن مدى استقلالية رشيد الكيلاني عن الإنجليز وخلدون هو زوج ابنة رشيد! ثمّ سأل ذات السؤال لعم زوجته خليل البستاني ليكتشف بعد ذلك أن خليلًا هو اليد اليمنى لرشيد، وما أسوأ الوقوع في هذه المطبات، ومنها حكاية الغداء مع نزار قباني وطلبه عشر دجاجات انتهت بعد توسلات بلقيس إلى ربع دجاجة لم يكمل أكلها!
وطبعا لا تخلو المواقف من لحظات حزينة كضياع الفرص، والموت، والخلافات، وفي محنها عبر تسلي المحزون وتزيده إيمانًا بالقدر، وفيها تدريب على انتقاء كلمات حيادية، والحذر من علاقات خفية حين الحديث عن أناس أو مؤسسات مع آخرين لا نعرفهم تمامًا، ومما يلفت النظر حصول أستاذ أمريكي على الدكتوراة باللهجة النجدية، وعنايته بتدريس اللهجة الشامية لطلاب جامعته الأمريكية.
كما تحفظ قصصه أخلاقًا نبيلة مثل شهامة الدكتور عز الدين إبراهيم وهو موقف عظيم يطلعنا الكاتب في ختامه على سر من خفايا شؤون النشر والناشر العربي وهو الخبير بهم، ومنها موقف د.نجم عبدالكريم بزركان الذي أنقذه من ورطة الاستغناء عن خدماته فور وصوله لأمريكا، وإجابة الأستاذ الأمريكي لجميع طلباته دون أن يراه أو يعطيه فرصة ليشكره.
ومن أغرب مواقف الكتاب صنيع وزير التعليم المصري الذي ناقض قراراته ولخبط الأوراق في شأن متفق عليه سلفًا بمكاتبات رسمية، وكانت غايته أن يتفضل بتيسير التعقيد الناجم عن قراراته المتضاربة فتكون له اليد الخيرة والحكمة وأضرابها من أوصاف تساق كرهًا لغير أهلها، وما ضاعت الحقوق والتنمية إلّا بمثل هذا التفكير الأعوج، ومن الغبن أن يفكر بعض أكابر المسؤولين بهذه الطريقة التي لا تؤهلهم لأقل الأعمال فضلًا عن أخطرها.
أما المؤلم في السرد الماتع فخبر لجنة وضع مناهج عربية في مصر وكيف هجرها رئيسها فيما بعد؛ فلما سأله المؤلف عن سبب تركه لها أجاب: إذا أدرجنا قيمًا وطنية قيل احذفوها! وإذا أضفنا قيمًا دينية أتانا توجيه بإزالتها! والعلة في الأمرين حتى لا تفسد هذه القيم التطبيع! ومن المفاخر فيه رواية خبر العقيد البريطاني في الكويت قبيل احتلالها، وسبب إسلامه الناجم عن التزام المسلم العربي بحسن معاملة المعاهَد.
ومنها أن رئيس تونس التغريبي المثقف الحبيب بورقيبة عزل رئيس وزرائه المثقف محمد المزالي بحجة نشاطه في أعمال التعريب، وللمزالي سيرة ذاتية منشورة أتمنى أن أجدها، ولو عاد الراحلان بورقيبة والمزالي لتونس الآن لوجدا أن فلسفة المزالي هي الأظهر وأن ديكتاتورية بورقيبة وخلفه تسير بخطوات نحو مزبلة التاريخ والله يحمي قصر قرطاجة وبقية البلاد منها.
أيضًا سيجد القارئ رواية عن بائع الأعشاب المغربي الذي أخبر أدونيس الباحث عن سبل لاسترجاع الشباب والحيوية بأن مطلوبه بيد الله سبحانه فقط، ويبدو أن أدونيس لم يدرس الثابت والمتحول في الجسد، وكرم التهامي الكلاوي وهو كرم مذموم، وعناية النصراني جورج سعد بوضع شواهد قرآنية في منهج أمريكي لتعليم العربية حتى ظن رئيس القسم أن المؤلف المتعاون مع المشروع يتعمد إضافتها.
كذلك ثقافة الأقلية النصرانية في السنغال المتشبعة بثقافة الأغلبية المسلمة حتى في مواعظ الكنيسة، وواقعة الأمير المغربي العامل، وتعجب جارودي من قوانين فرنسا التي لا تحرم إنكار الإله، ولا تمنع الكفر بالمسيح، ولا ترفض انتقاد الرئيس الفرنسي؛ لكنها تجرم إنكار المحرقة اليهودية وتحاكم من يقول به! وسيطرب القارئ مع الجامعة العائمة ومشروع تاريخ اللغة، والحليب بالسكينجبير.
ومن الروايات أن مؤنس عاهل المغرب لأكثر من ثلاثين سنة الفقيه الحاج محمد بنبين يحفظ دواوين شعر كاملة لقدماء ومعاصرين، وبعضها تتألف من عدة مجلدات، وحين زار الجواهري بلاط الملك المثقف سأله عن قصيدة قديمة له كتبها عام (1929م) وغضب منها الملك فيصل الأول، فأعتذر أبو فرات بنسيانها، لكن الملك طلب من مؤنسه إلقاء القصيدة الجريئة وعنوانها “جربيني” ففعل، ويكفيكم من مجونها عنوانها!
أنجى الله العراق الأشم من بلائه الذي لازمه في القرون والعقود الأخيرة، وأعاده لأمتنا وحضارتنا ولأهله منارة علم شامخة، ومنبع حضارة رائدة، وسلة انتاج بديع للمعارف والعلوم والآداب والفنون المعمارية والراقية، حتى ينعم أهله ومن حولهم وصولًا إلى أقصى الأرض بخيرات سواد العراق وبياضه، من علم وأدب وفضائل مع التمر والتمن وكل شيء حسن.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الجمعة 02 من شهرِ ربيع الآخر عام 1441
29 من شهر فبراير عام 2019م
One Comment
فضيلة الأديب الأريب الأستاذ سيدي أحمد بن عبد المحسن العسّاف المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
يطيب لي أن أشكركم على تكرمكم بقراءة كتابي ” طرائف النوادر عن أصحاب المآثر ” ، وتفضلكم بكتابة مقال شائق ماتع عنه، بأسلوب سلس جميل سريع الخطو، لخَّص الكتاب بطريقة ألفيتها جذابة عذبة أشعرتني بجدّة ما أقرأ، على الرغم من أنني خبرت أحداث الكتاب بنفسي وكتبتها بقلمي.
فشكراً لكم أخي العزيز وحفظكم الله ورعاكم. وتقبلوا مني أسمى عبارات الشكر والمودة والاحترام.
محبكم: علي القاسمي