سعادتك في متناول يدك!
ربما تكون السعادة والسرور الغاية النهائية لكثير من الأعمال سواء في الدنيا أو في البرزخ والآخرة لمن يؤمن بهما؛ ولو سألنا أنفسنا أو الآخرين عن الهدف من هذا الإجراء أو ذاك لعادت النتيجة إلى تحقيق السعادة وإن تفاوت التعبير عنها، واختلفت مراحل بلوغها وطرقها، بيد أنها هي النهاية المبتغاة؛ فمن العبث المشين صرف وقت وجهد ومال لعمل بلا إضافة جميلة على الحياة.
وثمت أعمال تصبح السعادة نتيجة حتمية أو شبه مؤكدة لها، كما أن هناك أعمالًا أخرى تؤدي إلى سعادات مؤقتة، والله يعيذنا وإياكم من أعمال تقود إلى التعاسة والشقاء؛ فيكفي المرء ما يعانيه من أوصاب الحياة وصروفها، علمًا أن بعض النفوس المريضة تجد متعتها بسوء الفعال، بيد أنها تختنق بالبؤس والضيق بعيدًا عن الأعين، أو في لحظات حرجة يزول فيها الكبر وتضمحل الغطرسة.
ومن مسارات تحصيل السعادة أعمال في متناول اليد والرجل والحواس، ولا تكلف شيئًا كثيرًا، ويكاد أن يقدر عليها الكافة، في أيّ وقت، وهي مع جلبها السعادة تفرز أشياء أخرى نافعة، وفوق ذلك لا يحيط بها شيء تسجله ملائكة السيئات في ديوان الخطايا، ولا يخالطها ما يسيء للأخلاق والعرف والأذواق السليمة، أو يدنس العرض والسيرة، حتى يكون شعارك في محياك الطاهر النقي: أنا سعيد كما يردد بحبور د.عمر آل الشيخ في سيرته، وعند استقباله لزائريه.
منها مثلًا المشي، ونتيجته تظهر بالجدية فيه، والمداومة عليه، وله أثر في إبهاج الخاطر، وتفريغ النفوس من شحنها، وإيجاد حل للمشكلات العالقة، وابتكار أفكار جديدة، فضلًا عن بركاته الصحية، وإذا كان في صحراء ذات رمال أو حصى أو فوق زروع ونبات فربما تعظم آثاره على الجسد، بزيادة وضوح السمع وصفاء البصر، واستخراج الطاقة السلبية من عجز ووهن، ولفضائل المشي على العقل والروح والجسد كتب منشورة، وأئمة يحثون عليها؛ والذي ينقصنا التطبيق والالتزام وهما مقتضى العلم.
ويماثل المشي ركوب الدراجة، والسباحة لمن كان يجيدها، أو المشي الآمن في الماء، فالعلاقة مع المياه لا تقف عند الشرب والطهي والنظافة الدورية، فكم يطفئ الماء من غضب، وكم من فكرة إبداعية تظل في محبسها فلا تنطلق إلى عالم الحرية إلّا بين قطرات الماء، وإذا كان الماء مع الرمل ربيع الصبيان، فهو لسواهم منبع الأفكار، وسبب الضحكات البريئة خاصة بتشارك متعتها مع المناسب من الناس.
هذه أعمال جسدية تصنع المتعة والسعادة، ويقابلها أعمال عقلية تأتي بذات الأثر، منها الخلوة التي يكون فيها مراجعة وتأمل ونظر للمستقبل، وأعرف أناسًا يغيبون عن عالمهم، ويقطعون سبل التواصل لأيام قد تطول، ويستمتعون خلالها بخلوة منجزة، وتأملات عميقة مثمرة، ويمكن لأيّ واحد أن يخلو في يومه، وأسبوعه، وشهره، وعامه، ومن عزم فسيجد له مخرجًا ووقتًا.
ومن متعة العقل الإطلالة على المكتبة، والجولة في معارض الكتاب، وتعلم الجديد ذاتيًا وعن بعد، والقراءة، والاستماع، والحوار، وحل الألغاز، وممارسة ألعاب الذكاء، والكتابة وأعظم بها من شفاء ينقذ النفس من أكدار الحياة ويخفف من كبدها، ويستدعي الانشراح، ومنها بناء العادات الإيجابية، وهي عملية مجهدة في أولها، منعشة في أوسطها، مثمرة في آخرها، محمودة في مآلها، مشكورة في إنجازاتها.
كما أن في العبادة روح وأُنس فأيّ شرح صدر يجد المرء لذاذته حين ينشر بين يديه كتاب ربه ومولاه يتلوه، ويتدبره، فيرتقي به حسه وإيمانه، وتسمو منه روحه، ويقتبس من هديه، ويتيه فخرًا بخطاب ملك الملوك سبحانه له، ويأتي بعد ذلك العيش مع السنة العطرة، والغرغرة بحلاوتها التي لا يعرفها إلّا من نظر في الصحاح والسنن والمسانيد، وها هي دواوين السنة متاحة في درر ورقية وإلكترونية، وفيها إرث رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مكتنز ولا محتجز.
ويدخل في سياق العبادة الصلاة فهي قرة عين مريحة للخاطر، والمناجاة والدعاء والأذكار في أوقاتها وأحوالها، والمكوث في المسجد انتظارًا للصلاة أو عقب الفراغ منها، والاعتكاف في رمضان، وتحري ساعة الجمعة، والطواف، والمجاورة في الحرمين، وكم من إنسان يجوب الأرض من أقطارها فلا تسكن نفسه إلّا في إحدى المدينتين، والله يعجل بتحرير الثالثة.
بينما تزداد سعادة الإنسان باقترابه من الطبيعة وتصالحه معها، وحفاظه على البيئة ورعايتها، ويحصل ذلك بالبستنة، وتربية الحيوانات غير المستقذرة، والخروج للبر أو الشاطئ أو الجبل، وممارسة الرياضات المتعلقة بها، وملاعبة الخيول، ورعاية الإبل فلها قيمة عظمى عند أهل الصحراء جعلت د.زياد السديري-العضو المنتدب لمؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية- يستبدل مربط الجمل بمربط الفرس، واستولى حبها على الأستاذ عبدالله العقيل -العضو المنتدب لمكتبة جرير- حتى خبر أكثر شأنها، ولآخرين ولع بالغزلان والطيور وغيرها، وكم سحبت النخلة والمزرعة أناسًا من كراسي الوظيفة المرموقة، ومقاعد الأكاديميين الوجيهة، وفيها وجدوا إشراقات نفس، وبهاء حياة، وفقهوا معاني الانتظار الجميل، وقوة التوكل الصادق.
أيضًا من طرائق البهجة والسكينة إسعاد العائلة، وخدمة الأسرة، بمداعبة الأطفال، وممازحة الشباب، وتوقير الكبار، والصلة الدائمة، وملاطفة الزوج، ومنها تقديم الخدمات المجتمعية للنطاق القريب والبعيد، ولو أن تميط الأذى عن الطريق، أو تشيع فكرة نبيلة، ووعيًا صحيحًا، ومن اللافت الجدير بالدراسة أن قسمًا كبيرًا من شعب الإيمان يرتبط بالمجتمع المحيط، ولا مناص من التفاعل معه بما يفيد وينفع، ولو ببسمة مشاعة، وخدمة متاحة.
ولا يغيب عن البال اكتحال العين بالنظر إلى الجمال المباح، وتقليب البصر بما خلقه الله أو أبدعه عباد الله، وأنس الأذن بالأصوات المستحسنة وبالملقى من الشعر والحكايات، وجمال العيش مع لسان ينتقي أرقى الكلمات وأعذب الألفاظ في جميع المواقف قدر المستطاع، واستطعام الأكل والشرب ولو كان قليلًا مع العافية والحاجة له دون تخمة، وأخيرًا السعادة باستنشاق الروائح الزكية من البخور والأزهار والعطور، ولأمر ما روي عن الشافعي وغيره أن المال المدفوع في الطيب ليس بكثير عليه.
هذه أفكار فيها تخلية ثمّ تحلية، وأغلبها دون تكلفة أو بتكاليف يقدر عليها البعض، ويمكن جدولة المناسب منها في الوقت الملائم، وتصلح فردية أو ثنائية أو جماعية حسب طبيعتها، وفوق ذلك سنجدها إذا تاجرنا بها في سوق النية الحسنة ضمن صحائف الحسنات، ويمكن لأيّ إنسان أن يفكر ويبتكر ويمزج ويزيد، ويفعل ما يمتعه فالحياة قصيرة، وليس من الحكمة أسر النفس في وحل الإحباط، ومستنقع الهموم، أو حمل ما تنوء به الجبال، فهيّا بنا نزيح هذه الأثقال عن كواهلنا، ونسعد أنفسنا حتى تسعد بنا بيوتنا وبلادنا وأمتنا، وكي نخرج من الحياة حين يشاء الله بسعادات تعبدية كثيرة؛ عسى أن تكون عند الرحمن الرحيم مقبولة مضاعفة، وتغدو عند صالح الناس وعقلائهم قدوة تقتفى.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
الأحد 28 من شهرِ صفر عام 1441
27 من شهر أكتوبر عام 2019م
3 Comments
جزاك الله خيرا الكاتب الفاضل احمد عن هذه المقاله القيمة .نبدا يومنا بتفاول وايجابية بقراءتها .وانت تكتب عن السعادة التي لاتشترى بكنوز الارض . بمتناول الغني والفقير. القناعة والرضا بما قسم الله العلي القدير وحب الخير للغير حب لغيرك ماتحب لنفسك . والكلمة الطيبة تخرج من القلب . وترك الحقد والحسد . يعز على ان اقراها واستفاد منها من دون ان ادعوا لك من قلب حاضر مع الله ان يؤفقك لما يحبه ويرضاه ويحقق لك ماتتمناه من خير الدنيا والاخرة
مقالة طيبة وافية رائعة وحبذا لو كان الابتداء بكتاب الله عزوجل .
واعجبني كثيرًا عبارة (الحيوانات غير المستقذرة) فهو قيد حسن ومهم
شكرا لكم وكتاب ربنا مهيمن مقدم مبارك.