لا تكتفي السيرة النبوية العطرة بأنها أجمل السير، وأعظمها، وأجلها شرفاً، وأسماها مكانة، بل تربو على كل سيرة بما فيها من دلائل، وشمائل، وفضائل، ودروس، وعبر، وحكم متعددة، في مجالات مختلفة، على تنوع أدوار صاحبها عليه أفضل الصلاة والسلام، سواء كان في عائلته أو أسرته أو قومه، أم كان داعية وهادياً ومعلماً، أم نظرنا إلى مقامه العلي في زعامة الدولة، وقيادة الجماعة المؤمنة، إلى غير ذلك من أحوال التعامل مع الواقع وتقلباته، والمواقع ومتطلباتها.
وما أحرى الدراسات في السياسة الشرعية، وفقه الواقع، فضلاً عن الدروس التربوية، وخطب الجمعة، ما أحراها أن تلتفت إلى هذا المعين العذب النمير، تستلهم منه وتستقي، فلعمر الله إن في سيرته وأحداثها من الأخبار؛ ما يحتمل أن يستفيد منه الإنسان في خاصة نفسه، والرجل في بيته، والمصلح في مجتمعه، والمجاهد في ساحات الوغى، والمناضل في احتسابه، والسياسي في قراراته واختياراته.
وبين يدي كتاب صغير الحجم، عظيم القدر، غزير الفائدة، عنوانه: قراءة سياسية لخروج الرسول الكريم إلى الطائف، تأليف د.عبد الحكيم الصادق الفيتوري، صدرت طبعته الثالثة عن دار المدني السعودية عام (2005 م)، ويقع في (73) صفحة من القطع المتوسط، ويتكون من إهداء واستهلال، ثم ثلاثة فصول، يتلوها نتيجة الدراسة، وثبت بالمراجع والمصادر، فالملخص ثم مسرد الموضوعات.
استهل الباحث والأستاذ الجامعي دراسته بالإشارة إلى أهمية أخذ صورة حركية، من سعي الرسول صلى الله عليه وسلم لإقامة دولة الإسلام العادلة؛ التي ينشدها عقلاء الناس، وتترقب البشرية مثلها؛ لتنقذها من ظلمات التيه وجور الإنسان، ونبه إلى أنه التزم بالمنهج التحليلي الاستقرائي الذي يراعي ظاهر النص ومقاصده، مع العناية بالقواعد الحديثية، والضوابط الشرعية، وفي آخر هذه الرسالة ذكر الفيتوري أنها مستلة من بحثه الذي حصل به على الدكتوراه، في الفكر والعقيدة عام(1999م)، بعنوان: “النظرية السياسية في السيرة النبوية، دراسة وتحليل”، ولم أجده مطبوعاً حتى الآن.
عنوان الفصل الأول: دواعي خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وبحث أولاً دور المشركين في هذا الخروج، حيث تعاظمت صنوف الإيذاء السافر للدعوة؛ وقياداتها والمؤمنين بها، ثم توالت المؤامرات حتى بلغت التخطيط لاغتيال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، وتزامنت معها عمليات تصفية جسدية للصحابة رضوان الله عليهم، ثم توجت الجاهلية مكرها الكبار بمقاطعة المؤمنين ومن ناصرهم، وزاد من خطورة الأوضاع وفاة أبي طالب الذي كان يحوط النبي ويغضب له، ثم وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها، وهي التي ناصرت دولة الإسلام بمالها وما تملك.
ثم تطرق المؤلف لأسباب اختيار الطائف دون غيرها، فمن ناحية الموقع تتمتع بمكان حصين؛ لطواف الموانع الطبيعة بها من جبال وتلال، والطريق إليها جبلي وعر؛ يؤمن الحماية لمن يسكنها، وهي ذات حصون تمنع من بداخلها. وتقام في الطائف وحولها، أسواق العرب الشهيرة، والسيطرة عليها تسهل خنق اقتصاد قريش، وامتلاك زمام الإعلام ووسائل التأثير.
ومن الناحية البشرية تقطن الطائف قبيلة هوازن، وهي من أعظم قبائل العرب المضرية، ولها أجنحة كثيرة؛ أهمها ثقيف وكعب وكلاب، وبنو نصر وبنو عامر وبنو جشم وبنو هلال، وبالتالي فهي تضاهي في القوة والعدد، قبائل غطفان النجدية، المعادية للدعوة الإسلامية آنذاك، وعليه، فالطائف من حيث الموقع والموقف، كانت خياراً استراتيجياً بالمعايير السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والإعلامية.
أما الفصل الثاني وهو الأطول فيحمل عنواناً لافتاً: الأبعاد السياسية لخروجه إلى الطائف، وأول بُعد نظر إليه النبي عليه الصلاة والسلام هو البعد العسكري، فلموقع الطائف استراتيجية متميزة؛ حيث تقع في أعالي الجبال مما يجعلها ممتنعة بذاتها، وفوق ذلك تسكنها قبيلة قوية يرجى عند مثلها النصرة أو المنعة على الأقل، وفيها صناعات عسكرية متقدمة؛ كالسيوف والتروس والرماح، والدبابات الخشبية والمجانيق.
ولم تلتفت القيادة الإسلامية إلى الأفكار السلبية كبعد المكان، ووعورة الطريق، واحتمالية الرفض والرد غير الجميل، بل مضت بعزم وهمة نحو تحقيق هدفها الذي تمثل بواحد من ثلاثة أهداف، أولها التماس النصرة من قبيلة ثقيف، القوية عسكرياً واقتصادياً وإعلامياً، وذات المكانة القبلية الرفيعة، والعدد الكبير.
فإن لم يقبلوا بالنصرة، عرض عليهم الهدف الثاني وهو المنعة بهم من قريش، فالنصرة تفهم في إطار الهجوم؛ بينما تقتصر المنعة على أطر دفاعية فقط، وبذلك كان هدفه البديل طلب الحماية، والدخول في الجوار، والعيش في كنف قوة عظمى كافرة بضوابط شرعية، وثوابت عقدية. والهدف الثالث أن يدعوهم للإسلام أياً كان موقفهم من الهدفين السابقين، لعل الله أن ينقذهم في الآخرة، ويستعملهم في الدنيا لنصرة دينه، وحماية أوليائه.
وفي هذا البعد درس بليغ، من دقة الاختيار، وصحة التوجه، وعمق التفكير الاستراتيجي، وأهمية معرفة الإنسان، ودراسة المكان، وضبط الزمان، وتحقيق نقاط أمنية متقدمة، وعمق استراتيجي يستوعب الكيان الإسلامي المستقل، مستفيداً من الهوامش السياسية المتاحة، والخلفيات القبلية، والعداوات التاريخية، وفي ذلك آيات للمتوسمين، وإنها لبسبيل مقيم.
والبعد الثاني سياسي، وهو لا ينفك عن سابقه العسكري، فبعضهم من بعض، ويذكر د. الفيتوري أن الجزيرة العربية في ذلكم الزمان كانت تعاني من التهميش والفراغ، وترنو إلى من يشغل الحيز الذي تجافت عنه القوتان المتصارعتان على أطراف الجزيرة، وهما دولة بزنطة ودولة ساسان، مما جعل الفرصة مهيأة لتحرك سياسي نشط في هذه المنطقة، التي انصرفت عنها القوى العظمى.
وبعد اجتماع مغلق مع قادة الطائف، وتقديم أكثر من طلب يجابه بالرفض، يئس الرسول من خير ثقيف، فطلب إليهم كتم خبر ما دار بينهم عن الناس؛ التزاماً بالأعراف السياسية، والتقاليد القبلية، ولكنهم لم يفعلوا؛ بل أغروا به السفهاء، وأرسلوا من يبلغ الخبر إلى قريش.
ولما خرج منهم بعد ما لقيه من تجهم السادة ورفضهم، وعبث السفهاء وآذاهم، قفل راجعاً إلى قومه، وهو يعلم بأن الخبر قد سبقه إليهم، وفي قمة الضيق جاءه جبريل ومعه ملك الجبال-عليهما السلام-، والأخير يطلب الإذن بإطباق الجبال عليهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يرفض إيقاع العقوبة بهم مع استحقاقهم لها، رجاء أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ويقيم دينه، وفي ذلك إشارة لطيفة للاعتناء بأبناء الجبابرة والملأ، والاهتمام بهم مبكراً، كي يكونوا إيجابيين في مسيرة التغيير الشامل، وفي مجيء ملك الجبال بالذات إيناسٌ للنبي بصحة اختياره الاستراتيجي.
الاقتصاد هو البعد الثالث في هذا الخروج، ففي الطائف أسواق إقليمية حرة، وحركة مالية وتجارية، والناس يقصدونها للتكسب، والتعرف، والتقاط الأخبار. وحفظ الاستقرار الاقتصادي مطلب رئيس تعقد لأجله التحالفات، وتبرم المعاهدات، وتهادن القوى بعضها البعض. ومن الحس التجاري لقريش، إبرامها “الإيلاف” والمواثيق مع زعماء الممالك الكبرى المحيطة، ورؤساء القبائل الواقعة على طرق التجارة، حتى غدت قوافلها آمنة في كل وقت، وبأي اتجاه.
وبوعي ورصد وفهم، انطلق النبي الكريم إلى الطائف مع موعد افتتاح سوق العرب الأشهر في عكاظ القريب من الطائف، محاولاً استثمار هذه الفرصة لصالح الدين والجماعة المؤمنة، وكان الهاجس هنا يدور في الفلك الاقتصادي؛ لأن التغيير يعتمد بقوة على الاقتصاد الشامل، إضافة إلى ضرب اقتصاد الأعداء الذي كان أحد الدوافع للخروج للطائف، وأحد أسباب الخروج لبدر، فالاقتصاد مهم إبان التأسيس، وبعد التمكين.
والبعد الرابع خاص بالإعلام، فقد كانت الطائف مركز إعلامياً، ومحطة اتصالات مرتبطة بالأسواق الكبرى في عكاظ ومجنة وذي المجاز، وتشبه منتدياتها وسائل البث المباشر، وأروقتها ساحة متاحة لكل العرب، ولها أثر ثقافي في تشكيل العقل، وتثوير الرأي العام، ولذلك كان اختراق المؤسسات الإعلامية والثقافية، والمنتديات الفكرية هدفاً مشروعاً؛ ولو كانت ضمن إطار مؤسسات جاهلية، دون التفات للمعوقات، ويبقى الأمر المهم في حسن اختيار الشخصيات المؤهلة لاقتحام هذه المؤسسات؛ بنفس هادئة، وعقلية راجحة.
أما الأمن فهو البعد الخامس والأخير، ويجزم المؤلف بأن لعلم الأمن والاستخبارات في الإسلام مكانة أوضح من الشمس في رابعة النهار، ففي القرآن قصة الهدهد وفتية الكهف، ومن هذا الباب ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في رصد منازل القبائل، وتحليل شخصيات القادة، والبصر بالأنساب، ومعرفة مدى القرب من القيادات المكية، وتفعيل بعض فتيان الصحابة وجعلهم أشبه بنقاط أمنية ثابتة أو متحركة، ولهذه الجهود ثمار واضحة في نجاح خطة الحركة والتنقل، وغشيان نوادي العرب.
الفصل الثالث عنوانه: الأبعاد السياسية لدخوله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، ففي عودته إلى مكة تأكيد مبدأ الإصرار على العمل لتحقيق الأهداف، والالتفاف على مفاصل قريش الحيوية الداخلية، وأخذ جميع الأسباب المتاحة، مع التوكل على الله، والضراعة له بالدعاء، وما أحسن الدعاء كرديف للعمل وليس بديلاً عنه؛ حيث كان الرسول يدعو الله أن يعينه على بسط سيادة القرآن على العباد والبلاد.
وعندما عاد النبي إلى مكة أفاد من عرف جاهلي لا يعارض أصول دعوته، حيث أصبح في جوار المطعم بن عدي، فدخل مكة علانية وليس خائفاً يخشى الهمس والظل، وبذلك تفاعل الرسول مع الوضع الجديد بتعديل خطته، والعدول عن فكرة تطويق مكة من خارجها، إلى العمل من الداخل، مستفيداً من التناقضات والأعراف التي لا تناقض دينه، وقد وقر في نفسه أنه ودعوته البديل الوحيد لوضع قريش الجاهلي المتهاوي، وطبق الفن السياسي بمهارة، ولم يحاول حصر الواقع في صندوق نظري فولاذي، بل درس الأمر، وقرر أمثل السبل، وأنجع الوسائل للتعامل معه، والسياسي إن لم يناسبه الواقع، وجب عليه تغيير طريقته وتخطيطه؛ ليفيد من الأمر الواقع، دونما تنازلات جوهرية.
وكانت وسيلته الأولى إسقاط شرعية قريش الدينية، فاخترق القبائل العربية بعيداً عن تشويش قريش وشغبها، واستهدف تعرية حقيقة قريش في جميع المحافل المتاحة، وتبيين حجم الانحراف الذي وقعت به حتى خالفت الملة الإبراهيمية، التي سادت الناس بها، بل بلغ انحرافها مرحلة خطيرة من التبديل والإفساد، وبالتالي فليس لها حق شرعي في تمثيل الديانة الإبراهيمية، ولا أن تحتكرها، وتسود سياسياً على مكة والعرب؛ بحجة هذا التمثيل الوهمي.
أما الوسيلة الثانية فهي إسقاط التمثيل السياسي والدبلوماسي، وثمت علاقة عميقة بين الوسيلة الشرعية، والوسيلة السياسية في جميع مراحل التأسيس والتمكين، حيث تواترت الإشارات على سعيه صلى الله عليه وسلم لإسقاط شرعية قريش الدينية، ودحض زعامتها السياسية، وهذا واجب شرعي، وضرورة واقعية، ولأجل ذلك بادر النبي للتصدي لكل قادم لمكة ذي شرف ومكانة، يدعوه ويعرض عليه أمره.
وتجاوز ذلك إلى مكاتبة الزعماء الإقليميين، وملوك الدول الكبيرة المحيطة بمكة وجزيرة العرب، وجعل من مهاجرة الحبشة أشبه بسفارة تمثل الجماعة المؤمنة، وتباشر أعمالها السياسية والدبلوماسية، في حل من نكد قريش، وغثاثة أساطينها، وكبرياء زعمائها وغطرستهم. وجهدت قريش لقطع هذه الصلة المتينة للمسلمين مع الحبشة وملكها، الذي كسبت الدعوة إسلامه؛ وإسلام وفده الرفيع إلى مكة، بيد أن محاولاتها باءت بفشل ذريع؛ لأن اختيار الحبشة كان بحس تاريخي، أدرك حاجة هذه المملكة إلى العودة مجدداً إلى جزيرة العرب؛ بعد أن طردت من اليمن.
وكانت الوسيلة الثالثة المنطقية هي إسقاط التمثيل العسكري لقريش، وخير سبيل لتحقيق ذلك عقد تحالفات مباشرة مع قبائل العرب، وظهر هذا الاهتمام جلياً في مفاوضة سادة بني شيبان المعروفين بقوتهم الضارية، بينما اكتفى النبي بدعوة غيرهم من القبائل للإسلام فقط؛ لأنهم أقل شأناً من الناحية القتالية.
وقمين بنا جعل سيرة أبي القاسم صلوات الله وسلامه عليه نبراساً نصدر عنه، وننهل منه، ونقتبس دروسه سواء كان المؤمنون جماعة أم دولة، فما أحوجنا لهذا الإرث الثمين النفيس في العقيدة والسلوك، وفي التفكير والتخطيط، وفي الجهاد والسياسة، وفي التربية والتعليم. ومن الحكمة أن نقرأ هذه السيرة العظيمة لإحداث نقلة نوعية في إنتاج فكر إسلامي أصيل قويم ومؤثر، بأصولية الاستدلال، وتجديدية التطبيق؛ وكيف لا يكون ذلك، وقد جعل الله لنا من شخص النبي العربي الأمي-عليه الصلاة والسلام-أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر؟!
الرياض- الأحد 13 من شهرِ ربيع الأول عام 1436
04 يناير 2015