حدثوني فكتبت!
كتبت فيما مضى مقالة جمعت فيها عددًا من المواقف التي حدثني عنها أصحابها ثمّ نشرتها مختصرة على حسابي في تويتر، فقال لي أحد القراء مثنيًا على الفكرة: كم نحن بحاجة إلى إعادة الفائدة لمجالسنا، فقد أكلت وسائل التواصل والاهتمامات الأقل أهمية حلاوة المجالس وحولتها إلى صمت مفزع، أو نقاشات ذات محتوى تهفو النفس إلى ما هو أرقى منه.
ثمّ دونت مرة أخرى عددًا من الأحاديث التي سمعتها فوجد أغلبها تجاوبًا جميلًا شجعني على جمعها في مقالة جديدة آملًا أن تكون مفيدة لمن شاء الرواية أو الاستئناس بها، علمًا أنها أحاديث ليس فيها غرائب أو أحكام ملزمة، وإنما هي من جنس ما يقع للناس في حياتهم، وليست بمستنكرة، والمنفعة منها بادية.
فقد حدثني جاري قائلًا: ذهبت إلى المستشفى متألمًا من النقرس، وكنت أتوكأ بيميني على عصاي، ويعضدني السائق من يدي اليسرى، وحين دخلت على الطبيب أنصت إليّ بعناية ثمّ تبسم وقال: أمرك يسير وسيزول، وكتب لي الدواء وأحالني لغرفة التمريض، فقمت من عنده أمشي بنشاط ووصلت للغرفة ثمّ اكتشفت أني أمشي بلا عصا ولا عضيد! وهذا أثر الكلمة الطيبة المتفائلة، وهي مجانية وتحفيزية وأجر لصاحبها.
كما زرت مريضًا فحدثني أن زميله أجرى عملية خطيرة في القلب قبل عقود، فذهب لعيادته والدعاء له وتطمينه، فقال له زميله: نحن في عافية وغفلة ولا بد من مثل هذه “القرصة” لنستيقظ، وما أحوجنا إلى مثل هذه القراءة الإيجابية للأحداث المؤلمة؛ فالتقاط نقطة ضوء في عتمة حالكة يمنح الأمل ويبشر بالفرج.
بينما حدثني آخر فقال: أصيب صاحبي بالسرطان فذهب إلى أمريكا للعلاج، وكان طبيبه الكبير يقف عند باب غرفته؛ فإن رآه منشرحًا مبتسمًا دخل عليه وإلّا انصرف عنه قائلًا: لا أريد أن أراك متكدرًا؛ فرباطة جأشك جزء من العلاج، فما أكمل آثار الإيمان بالقضاء والقدر مع الرضا الجميل بخيرة ربنا وأمره؛ فهي قوة وانشراح وطمأنينة.
أيضًا أنباني رجل صالح عن قصة وقعت له فقال: أُدخلت جدتي للعناية المركزة، وقال الأطباء: بعض أجهزتها توقف، والأسوأ متوقع! ويكمل: أسرعت فاشتريت عدة سلال غذائية ووزعتها على بيوت فقيرة بنية شفاء جدتي؛ فعافاها الله، وعاشت سنوات عددًا كما كانت، وهذه دعوة لنعالج مرضانا ونقضي حوائجنا بدفع الصدقة وفعل الخير؛ فصنائع المعروف تغلب البلاء وتدفع السوء.
وحدثني قريب فقال: أقمنا قبل سنوات دورية بين أهل الحي، وسعيًا لاستمرارها ومنعًا للتكلف والإسراف أسميناها: دورية الفول! وهي قائمة الآن على شرطها الأساسي ولم يخرمه أحد، وإن أفضل الاجتماعات ما كان وديًا، بلا مظاهر، الغائب عنها معذور، والمشارك فيها مأجور، فبذلك تدوم ولا تنقطع، وهي ليست مجالًا للتفاخر أو التكاثر، هذا غير فضيلة الالتزام بالمتفق عليه.
وأخبرني مأذون أنكحة بقوله: عقدت لرجل عمره ثلاثة وثمانون عامًا على امرأة عمرها سبعون عامًا، فأسرّ “العريس” للمأذون بأنه يحب “العروس” منذ سنوات الشباب بيد أنه حيل بينهما، وتزوج كلّ واحد منهما نصيبه، فلما ترملت “محبوبته” استيقظ الحب القديم واشتعل الشوق! وليس للمحبين أفضل من الزواج، وما سوى ذلك فقبض ريح أو عبث لاهين.
أما من أعجب ما سمعت، فما حدثني به رجل أديب تجاوز السبعين إذ قال: عدت لبيتي من عملي قبل نصف قرن؛ فسألت زوجتي: هل عندك شيء نأكله؟ قالت: لا! وكان الراتب حينها قليلًا، وأنا مسؤول عن والدي وإخوتي؛ فركبت سيارتي لموقف البطحاء وأوصلت أربعة أشخاص لدوار الخرج بربع ريال للفرد، ثمّ اشتريت بالريال شيئًا من زيتون، وجبن، وحلاوة طحنية، وخبزتين كبيرتين، وعدت لداري وتعشيت مع زوجتي بسعادة كبيرة، وياله من شقاء شفاؤه أربعة أرباع!
ومن أحاديث النساء ماروته إحداهن بقولها: زوج قريبتي مغمى عليه منذ عقدين؛ فضبطت زوجته إيقاع حياتها وفق مقتضيات العناية بزوجها: تمرضه، وتطعمه، وتنظفه، وتلبسه، وتحركه، وبعض من حولها يحاولن ثنيها وهي تأبى تدينًا ووفاء، وترفض سماع “نصائحهن” الخاطئة، وإن الزواج لعقد غليظ، والسؤال الأخروي عنه عظيم، وخير الناس أحسنهم عشرة.
وبالمقابل حدثني محقق فقال: دخل لمكتبي رجل أشيب مهيب يتابع قضية امرأة، فسألته: وما علاقتك بها؟ فقال: هي طليقتي منذ بضعة عشر عامًا! ثمّ سألته: هل بينكما أولاد؟ فأجاب بالنفي، فقلت له: لا شأن لك بها إذًا! فأجابني بقوله: ألم تقرأ قول الله سبحانه: “ولا تنسوا الفضل بينكم…”؟! وما أكمل المروءة، وأحسن الوفاء والشهامة، وأولئك هم الرجال حقًا.
كما روى لي عابر عن والده وهو عابر شهير راحل فقال: ساءت العشرة بين زوجين حتى وصلت إلى حد الطلاق، ثمّ رأى الزوج في منامه أنه يقود سيارته ومعه زوجته كاشفة الوجه، ناشرة الشعر، يكاد رأسها أن يخرج من نافذة السيارة، والغريب جلوس رجل يعرفانه معهما في المقعد الخلفي، والسيارة تهتز بقوة مخيفة! فأمرهما العابر بأخذ أثر من الرجل الذي كان في المقعد الخلفي، وحين فعلا عادا لبعضهما بمودة وحسن حال، وما أجدرنا بقول ما شاء الله لا قوة إلّا بالله إذا أعجبنا شيء عندنا أو عند الآخرين.
كذلك حدثني أكاديمي عن نفسه قائلًا: التزمت بالأذكار التي أوصى بها النبي عليه الصلاة والسلام فاطمة وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما حين يأويان إلى فراشهما، فكانت النتيجة أن تغلبت على الأرق، واستيقظت للفجر بسهولة، وأمضيت نهاري بنشاط، والأذكار هي سبحان الله (33) مرة، والحمدلله (33) مرة، والله أكبر(34) مرة، فما أيسرها، وأعظم بركتها، والتوفيق من الله.
أما أحزن ما سمعت فما حدثني به جليس حين قال: لا يستخدم صاحبي الجوال بتاتًا أثناء القيادة، وإذا احتاج لذلك أوقف سيارته وأنهي استخدامه للجهاز ثمّ واصل القادة، والسبب يعود إلى أنه استعمل الجوال ومعه صديقه الأثير الذي نهاه عن الجمع بين الجوال والقيادة، فسخر من نصيحة صديقه اعتمادًا على مهارته ويقظته، وفجأة ارتطمت سيارته بشاحنة فانشطرت إلى نصفين، وطُحن القسم الذي فيه صديقه بمن فيه! ونعوذ بالله من العظة المفجعة، ومن المغامرات التي لا تستحق ثمن المخاطرة بها.
هذه أحاديث مختلفة، في شؤون متنوعة، ومن أناس كثر، في مناسبات عدة، وآمل أن يكون فيها ما يدفع إلى حسن القول، وجميل الفعل، وحكيم الرأي، وصادق النصيحة، وأن تكون جلساتنا عامرة بما يجعلها لنا أجرًا عند مولانا في الآخرة، وذات إشراقات تنفعنا في دنيانا، وتلهمنا فعل المكارم واجتناب المآثم، وذلكم هو الرشد المبتغى.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الأربعاء 03 من شهرِ صفر عام 1441
02 من شهر أكتوبر عام 2019م
One Comment