كمال: مثال من البنغال
يقف كألف ممدودة، ويبدو مثل مشرف ميداني مرموق، تستولي على محياه الأسمر بسمة بيضاء، وترتوي الأرض تحت قدميه من آثار كدحه المتواصل، ويتنافس فوق رأسه لمعان أشعة الشمس مع بياض شيب مشتعل سريع المسير دونما مقاومة.
ذلك هو كمال الذي يمشي على الأرض حاملًا معه خمسة وخمسين عامًا لم تكسر عزيمته، وربما أنهما تصالحا معًا بفضل الله، فلاهي تصدق أنها لمثله، ولا هو يشعر باتجاهه صوب الستين؛ أو بضغط السنون عليه، ولذا يعمل بهمة لا تعرف الكلل، وباستمرار لا ينغصه ملل.
أمضى كمال في المملكة ثلاثًا وعشرين سنة، تنقل خلالها من الشرق إلى الجنوب حتى استقر في العاصمة، وهو فيها منذ تسع سنوات لم يبرحها ولم يغادرها لأهله، مع أن الانقطاع الطويل لايطاق، والله يعينهم جميعًا، وما أحسن الاستعداد والقابلية للعمل في أيّ مكان وإن نأى العامل عن الدار والأهل.
أما وظيفته الحالية فعامل نظافة في شركة متوسطة تعمل على قسمين أول النهار وآخره، ويستثمر أوقاته الأخرى في تنظيف السيارات والمكاتب المجاورة التي تحتاجه حين تسافر عمالتها، فيمتد وقت العمل لديه من بعد الفجر إلى أن يهجم النعاس على عينيه فيغمضهما قسرًا بعد العشاء بساعات، وفي المواسم والمناسبات يعرض خدماته المدفوعة على جيرانه من أفراد ومؤسسات.
لكمال ثلاثة أولاد تحصلوا على تعليم عال، فالابن الأول طبيب أسنان، والثاني محامي، وأما البنت الوحيدة فتحمل ماجستير محاسبة أو إدارة مالية، وله أيضًا عمارة سكنية تجارية في بلدته، وطابقها الرابع والأخير على وشك التمام، وبإنجازه سيذهب لأداء الحج ثم يغادر بلادنا نهائيًا إلى أهله ودياره، والله يرزقه برهم وبركتهم.
لم يحاول كمال استدرار عطف الآخرين بتمسكن أو تخاشع، ولم يدخل في مغامرات يعلم أنه لا يصلح لها، عدا أن نظام البلد لايتيح ذلك إلّا ضمن أطر لم يحسب لها حسابًا حين وفد إليها قبل ربع قرن تقريبًا، وربما أنه غير ميسر لاحترافها، ولم يقامر في منحى محرّم أو مجرّم؛ فالغريب الذي عبر الجبال والبحار والصحاري جاء ليبحث عن لقمة حلال آمنة ولو لم تك كبيرة، وحتى لو خالطها العناء والألم.
وهو لا يغير من نظامه سواء في الصيف أو الشتاء، ومع الصحو والغبار؛ بل إن الأخير يفتح له باب تنظيف أفنية بعض البيوت، وأتصور أنه حين يأوي لفراشه لا يقضي وقتًا في استدعاء الرقاد، وربما أنه لايستطيع إكمال أوراد النوم، ويصدق عليه أنه ممن بات كالًا من عمل يده، ويا له من مكسب طيب مالم يكتنفه غش أو تقصير.
وتطابق أوصاف كمال الجسمانية ما ذكره الفرنسي جوستاف لوبون عن البنغال في كتابه الفخم حضارة الهند، وأبرأ إلى الله من تعميم رأيه عن طباعهم وأخلاقهم، ففي كل واد بنو سعد، وإذا اختلفت أصابع يد واحدة فكيف بملايين البشر المزدحمين في بقعة واحدة؟
بينما يمتاز كمال بسرعة التعلم والجدية، ولو رزق الله بلاده وشعبها حكومة تعتني بالتعليم والصناعة أشد من اجتهادها في تغيير ثقافة المجتمع لنافست “دكا” جارتها العظمى “دهلي” في البرمجيات وما يتعلق بعلوم الحاسب وتقنياته، وأصبحت قوة إسلامية ذات قيمة أكبر من تصدير العمالة الرخيصة، ولما ألصقت بهم أوصاف مشينة، بل إنها ستدك هذه الإشاعات، والله يلهمهم الخير لبلادهم وأناسهم.
كما يذكرني بما كان يعانيه الأجداد من مشقة في السفر والتجارة والزراعة والصيد والرعي والغوص، وبزمن قديم كانت المهن فيه محلية، ثم استقطب الاستقدام لها شعوبًا عدة، والأمل أن يعود التوطين لأكثرها؛ فالشهادات وحدها لا تكفي، والوظائف لا تستوعب، وابتداء أي تجارة يستلزم استعدادًا مسبقًا، وربنا الرزاق أعلم بمواضع فضله، وعسى أن تعود لشبابنا ثقافة عمل اليد فهو أطيب الكسب، وثمت بوادر مشجعة في عدة مناطق، وبدايات تستأهل الاحتفاء والمساندة.
وينبني على ذلك ضرورة قبول ثقافة المجتمع لهذه المتغيرات، ومن المؤلم سرعة انسجام المجتمع مع الظواهر الغريبة في مقابل عسر هضمه للمتغيرات الحسنة وهي أولى بالقبول والمساندة؛ حتى تغدو جل شؤوننا من عمل سواعد شبابنا، وسيكون لذلك أثر كبير في النضج، وحماية المكتسبات والحقوق، مع شعور صادق بالشراكة المجتمعية، فضلًا عما في عمل اليد من نشاط جسد، وصفاء ذهن، ومدافعة وساوس وهموم، وصدق توكل على الله، ومن اكتسب قرشه بتعب فلن ينفقه في غير موقعه المناسب غالبًا.
فما أكمل أن يصبح أفراد المجتمع أصحاب عمل مناسب واكتساب حلال دائم، ومن لم يوفق في باب فأمامه أبواب كثيرة، ومن عجز عن مسار فالطرق البديلة متوافرة، لأن خيرات بلادنا ومواسمها أضخم مما نتصور، وحينها ستختفي مثالب ومآخذ كالبطالة والسهر الطويل، والإسراف والكسل والعنوسة، وستزداد البركات والمحاسن فينا وعلى رأسها التوازن، ودوران المال داخل البلد، ورحيل من لاحاجة لبقائه، وارتفاع مستوى الوعي بالحقائق والتحديات، والشعور بالجدية، ولذة الكدح الحلال.
أحمد بن عبدالمحسن العسّاف -طرابزون-تركيا
ahmalassaf@
السبت 16 من شهر ذي الحجة الحرام عام 1440
17 من شهر أغسطس عام 2019م
One Comment
الكاتب الفاضل احمد حفظه الله ورعاه . بارك الله فيك على كتابة هذه المقالة القيمة البليغة والمفيدة . وبارك الله في النموذج كمال المكافح .فهنيئا له ولاولاده وعائلته هذا الاب المثالي كثر الله من امثاله . له ولاامثاله كل التقدير والاحترام