الحج: ركن السلام الأعظم!
ليس الحج خامس أركان الإسلام فقط، بل فيه من المعاني عدا الأحكام ما يمكن للأمة أن تستظل تحتها، وتركن إليها من الفرقة وسفك الدماء، فهو شعيرة يحيط بها السلام في الزمان والمكان والحال والمآل، وما أعظم بركاته، وأشقى من تباعد عن منح مولاه فيه ونفحاته.
إذ يأتي الحج في أشهر حرم متتابعة، استقرت حرمتها من دين إبراهيم عليه السلام، ثمّ عبثت فيها الجاهلية تماشيًا مع أهوائها زمنًا، حتى جاء النبي الخاتم الأكرم، فاستدار الزمان على هيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وعادت الأشهر الحرم الأربعة لمكانها وقداستها، ومنها ثلاثة سرد تحيط بفريضة الحج: واحد قبلها، وآخر خلالها، والثالث بعدها، والقتال فيها كبيرة وعامة الخطايا إبانها عظيمة الوزر كما ذكر بعض أهل العلم.
ولا يكون الحج إلى غير مكة؛ فهي البقعة الحرام الأقدس مما سواها، والأشرف من سائر المواضع، وليس القتال هو الممنوع والمحرم فيها فقط، بل نية الفعل المشين المائل عن الحق، وإخافة أهلها وقاصديها أو ظلمهم، وما دون ذلك من قطع شجرها، أو تنفير صيدها، أو إفساد خلائها، أو التقاط لقطتها إلّا لمن أراد تعريفها، فهي أرض سلام وأمن بحكم الله القدير لها، ويا معرة وخزي من خالف أو نوى أو سعى، والله ثمّ صالح عباده لهم بالمرصاد.
كما أن الحج يسبغ على بدن الحاج قوة ونشاطًا بممارسة تشابه التأهيل العسكري، وتعيد صياغة روحه فيعظم مطلوبه ويسمو بعيدًا عن الصغائر، ويرخص عليه المال مادام في سبيل الله، وتتهيأ نفسه للدفاع عن دينه وعرضه ودياره، وكم تزلزل الاحتلال الآثم لبلاد المسلمين من نشاط حركات المقاومة بعد قفول قادتها من الحج. ومكة هي أعظم رابط مع المسجد الأقصى بتشاركهما في القبلة والإسراء وفضل الصلاة والحرمة على الترتيب، وويح ليهود من هذا الرباط الذي لا ينفصم!
لذلك سعت بريطانيا -مثلًا- لمنع الهنود من الحج بالفتاوى مدفوعة الثمن، وبتعسير سبل قصد البيت الحرام، ومع حرصها لم تفلح، وأقلقها الحجيج العائدون بعد أن نهلوا من بركة الحرمين، فالأمة القوية في أفرادها تغدو مرهوبة الجانب فلا يجرؤ عليها أعاديها، ويا له من سلام يفرض نفسه بالقوة الناعمة والصلبة، فلا مكان لكيان رخو أو هش في عالم الوحوش الظاهرة والمستترة، وعندما يشحن الحج نفوس عباد الله بالعزة والأنفة؛ فلن يكسر شموخهم شيء مهما كان.
ويجمع الحج أهل الإسلام على اختلاف أمصارهم ولغاتهم ومذاهبهم وأعمارهم وأعمالهم وثقافاتهم وألوانهم، فلا ترى بين الجموع تمييزًا في منظر مهيب تنخلع له قلوب، ويصاب بالهلع من تكراره مجرمون أكابر على رأسهم الشيطان الرجيم الذي لا يُرى في موقف أذل من موقفه يوم عرفة، وفي هوانه قوة لأهل الإسلام والسلام. وإن أمة تجتمع على صعيد واحد، في وقت واحد، لأداء عبادة واحدة، ومناجاة ربٍّ واحد؛ لأمة جديرة ألّا تكون مهانة أو تابعة؛ بل مهابة متبوعة.
بينما تجلب عبادة الحج السلام لأهل الإسلام، فهذه الفريضة تصلح شأن المرء فيعود منها وقد ارتفع مستوى تصالحه مع نفسه ومحيطيه وبيئته، ويصبح ميزان الآخرة أولى عليه من موازين الدنيا التي تثير النزاع والشقاق، وحين يؤدي المرء جميع أركان الإسلام سيعز عليه خدش إسلامه، ويسعى الموفق لاستكمال أركان الإيمان معها عسى أن ينال مرتبة الإحسان، فأيّ سلام وسلامة تصاحب المرء الذى يرى الله جل جلاله أمامه دومًا، ويستشعر معيته سبحانه لخلقه!
ومن سلام الحج ومكة إتاحة المطعم والمسكن للحجيج دونما شح أو جشع، وأي مغنم يريده القادم أعظم من الجوار بسلام لا ينغص عليه نقص أو خلل؟ وإذا تسابق أهل الجاهلية لمكارم السقاية والإطعام والاستضافة والأمان فأهل الإسلام وجيران الحرمين بها أولى، وهم سباقون لا للمفاخرة بل قيامًا بالواجب، واستثمارًا في صحائف الحسنات.
كما يشيع انتشار لفظ السلام بصيغته الشرعية السكينةَ والألفة بين جميع من ضمتهم مكة، وكل من أتى بهم الحج من فجاج الارض، فالحاج يسلم على أخيه المسلم العربي والفارسي والتركي والأمازيغي والرومي والهندي والأفريقي وغيرهم، وأكرم بالقوم إذ وفدوا على مولاهم الله وهو السلام ومنه السلام تبارك وتعالى، حتى أضحى السلام شعارًا لهم وعلامة، ومن دخل البيت فهو آمن بحكم الله له، ومن أراد الإلحاد فيه فالويل له.
إن أمة أحاط السلام بأحد أركان دينها لهي حقًا أمة السلام والعدل، وأمة القيم والفضائل، لا أولئك المتشدقين بالدعاوى الجميلة في لفظها ومظهرها وهم عن حقيقتها أباعد، خاصة عندما يكون التطبيق مع غيرهم، أو على أناس لا تُرجى منهم مصلحة، ولا تُخشى منهم مقاومة أو ملاحقة. وحري بأمة السلام والإسلام أن تفرض السلام داخلها وخارجها، وتسترجع هذه المسؤولية من الذين سرقوها فأجرموا ونهبوا وأخافوا، ففي الحج تعرف الجموع ربها، وتزدلف لمولاها، وتطلب من معبودها المُنى وهي خاشعة بين يديه، وبعد أن يغمرها الاطمئنان وراحة البال؛ عليها أن تلتفت لتحقيق مقاصد الحج العظمى العامة، فأي خير وسلام يُنتظر؟
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
الجمعة غرة شهر ذي الحجة الحرام عام 1440
02 من شهر أغسطس عام 2019م
One Comment