الشعيبي وسجايا الأخفياء
عقب أحد الأعياد، أحييت وسمًا عن ذكرياتي مع أبي في موقع التدوين المصغر تويتر، ولم أتوقع أن يجد ذلكم التجاوب الكبير من الناس بعاطفة وثابة تجاه الآباء، ولو كان لتويتر مراصد تحسب المشاعر، لسجلت أعلى منسوب من البر والدموع والآهات ساعتئذ.
وممن تفاعل مع الوسم إمام مسجدنا آنذاك وجارنا الوفي الشيخ فهد الشعيبي، فصاغ تغريدات يفوح منها عبير إنسان عاش معنا زمانًا ومكانًا بنفس خالية من الشوائب، تواقة للمحاسن، منزوية عن معارك الدنيا، ثمّ ختم تدويناته قائلًا: أوَ يلومني أحد بعد ذلك على حبّ والدي؟
عاش الشيخ ناصر بن عبدالله بن محمد الشعيبي قريبًا من قرن بين عامي (1340-1433)، وعمل في مزرعة نخل البديع للإمام عبدالرحمن الفيصل، ثمّ مع قريبه الشيخ سليمان الشعيبي في مزرعة نخيل الملك عبدالعزيز -رحم الله الجميع- وترقى عقب ذلك إلى مرتبة رئيس عمال، وانضوى تحت رئاسته موظفين أضحوا فيما بعد من كبار أثرياء الرياض، وروى أحدهم والدموع تغالبه لطفه بالعاملين حتى مع تقصيرهم؛ فلا يسمعون منه إلّا كلمته الوادعة: يا غافل اذكر الله، وماكان الرفق في شيء إلّا زانه.
من خصاله محبة العلم وأهله وإجلالهم لسمو الإرث الذي يحملون أمانته؛ حتى لو كان بعضهم أصغر منه بسنوات كثيرة، فيذهب لزيارتهم، ويظهر لهم التوقير والتقديم، وما صنيعه هذا إلّا من سلامة طويته، وتقديره لدينه وعلوم الشريعة، وليت البعض يقبس من شمائله مع الأعلم منه ولو كان في عمر أولاده، أو أقل منه مالًا وولدًا، أو أدنى مرتبة في أعراف اجتماعية بعضها ظالمة.
بينما لا ينبس الرجل ببنت شفه يكتبها عليه ملك السيئات بحق أحد، وإذا ذكر إنسان بسوء في مجلسه طلب من المتحدث صرف وجه الكلام إلى ما ينفع، وإن كان في مجلس غيره ولم يتركوا الغيبة قام مغادرًا المكان، وهي خلة نادرة في زماننا؛ فهو لا يكتفي بالكفّ عن اللمز، بل يمنعه في داره، وينكر على من ولغ في عرض غائب عند غيره، وما أعظم أجر الذب عن الأعراض، وما أرقى المجالس وهي عامرة بالفوائد، سليمة من المعايب، بريئة من نهش لحوم الخلائق.
ولا يرى لنفسه حقًّا على أحد، فيبادر بزيارة أقاربه وهم أصغر منه سنًّا، ولا يعاتبهم على ذلك لأنّ صلة الرحم ركيزة أساسية لديه. ومن لفتاته التربوية الموفقة ذهابه معايدًا لإحدى بناته؛ وحين قيل له: انتظرها فالحق لك! أجاب: المرأة تحت حكم زوجها ولا حق لي عليها، ويا له من فقه اجتماعي، وراحة نفسية، حُرم منها أولئك الذين يحاسبون على كلّ شيء، ويفحصون أيّ حركة وسكنة بحثًا عن خفايا محتملة، أو بواعث تضرم النار في أغصان علاقات متيبسة، ولا يحسنون إلّا لمن أحسن لهم، وما أشقى حياة من ابتلي بذلك الجحيم الماحق.
كما امتاز الشيخ الشعيبي بقلة الكلام مستغنيًا عن كثير منه بلهج مستمر بذكر الله، وانصات المستعبر الوجل للقرآن الكريم يتلى، وعلاقته بكتاب ربه وثيقة في البيت والمسجد والطريق والسيارة آناء الليل وأطراف النهار، ويختم كل أسبوع مرتين أو أكثر، وما أكبر بركة القرآن العزيز على أهله.
وعندما تعرض أحد أبنائه لحادث سير نُقل على أثره للمستشفى، جاء الشعيبي لزيارته والاطمئنان عليه، فلما دخل سلّم وذكر اسم الله على ولده المصاب، وقرأ عليه القرآن، ولم يشغل نفسه بالسؤال عن كيفية الحادث وسببه ومن المخطئ فيه، مما لفت نظر أصدقاء الابن المصاب عبدالعزيز عن زوايا اهتمام والده، ونظرته للأمور، مع تعلّق نفسه بالله فيرضى بقضائه، ويستدفعه بالدعاء وبذل السبب.
ومن مزاياه اللافتة صباحة الوجه التي جلبت له المحبة، ويبدو أنّ سرها يعود لخلوته بربه ساعات طوال من غلس الليل؛ يقوم بين يدي مولاه مناجيًا مبتهلًا مستغفرًا، إذ روت زوجه المباركة -حفظها الله- أنها عاشت معه قريبًا من ستة عقود وهو على هذا النهج، وقال أحد أنجاله: كنا نستعد للنوم في مراهقتنا عند الساعة الواحدة ليلًا؛ بينما يشرع والدنا في تألهه مابين قيام وتلاوة واستغفار وبكاء حتى يُنادى للفجر.
وللشيخ جلسة يومية مع عائلته بين العشاءين يسمع منهم ويسمِعهم، ويفيدهم ويقترب منهم، وأكثر سؤال يردده خلالها: كم بقي على الآذان ليخرج للمسجد قبل النداء، حتى غدا معروفًا عنه القيام بمجرد سماع صوت المؤذن، وما أجلّ بركات التبكير للمسجد. وإذا طلب من أولاده شيئًا قدم لهم العذر وحسن الظن بهم إن لم يناسبهم الوقت أو عسُر عليهم تلبية الطلب؛ ومع كثرة إعذاره لهم، وامتناعه عن ملامتهم لم يجد منهم إلّا التسابق لإجابته والبر به.
كما اشُتهر عنه الدعاء المؤثر بلا تكلّف، ومن دعائه بعد الأكل: عافى الله من صنعه، وخلف على من بذله، وهنأ به من أكله، ولهذه الخصيصة حرص أقاربه على دفع أولادهم للسلام عليه؛ كي يغنموا منه دعوة تُرجى إجابتها من رجل صالح نال محبة الخلق وقبولهم. ويجري على لسانه دعاء لأحفاده وغيرهم يشمل الصلاح وحفظ القرآن ونصرة الإسلام؛ وكلها مسائل ذات بعد أخروي لأنّه فيما يظهر أسقط مكاسب الدنيا من حساباته، وقيمة الإنسان تتجلّى فيما يطلبه.
وللرحمة في قلبه مساحة واسعة، ووصفت مسالكه مع الضعفة الرأفة والحنان، إذ لا يرد سائلًا ولا يفتش عن حاله أو يفحص صدق مقاله، وربما اقترض لإعطاء سائليه. وفي اجتماعاته الأسرية يصر على غرف طعام الخدم من أصل محتويات المائدة وليس من بواقي أصنافها بعد قيام أفراد الأسرة عنها، وفي ذلكم أدب نبوي يغيب عن كثير من الناس، وفيه نزعة إنسانية سامية، فهؤلاء الخدم مثلنا فيما نحب ونكره ونتمنى.
أما خبره مع إجلال النعمة فعجيب نادر، فمنه التزامه بألّا يترك أثرًا للنعمة على سفرة طعامه، وجعله لأمواه مطبخ منزله خزانًا خاصًا كي لا تختلط آثار غسيل أواني الطبخ مع المجاري، فأين هذا من أهل الإسراف والتبذير؟ وأين هندسته لمنزله ممن يستصعبون مخالفة الخطأ الشائع ولا يحاولون ابتكار نموذج يخالف القوالب المعهودة المعطوبة؟
ذلكم هو الرجل الصالح الخفي بصلاته وصيامه، وكم في سيرته من أسرار نأمل أن يجدها حسنات مقبولة متنامية في صحيفته عند مولاه يوم يلقاه، فالشيخ الشعيبي أخذ -فيما نحسبه- من شعب الإيمان، ومنازل الأولياء، وشيم الصالحين ما استطاع إليه سبيلًا، وكانت منافسته شريفة على دار باقية، تلك الدار التي جعلها الله للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين، وحرم منها أشقياء لهثوا خلف فانية بغرور وظلم وقبائح.
أحمد بن عبدالمحسن العسّاف – إسطنبول
الثلاثاء20 من شهر ذي القعدة عام 1440
23 من شهر يوليو عام 2019م
One Comment
جزاك الله خيرا الكاتب الفاضل احمد حفظه الله ورعاه
لايسعني وانا اقرا المقال . الا ان ادعو من الله العلي القدير للشيخ الصالح ناصر بن عبدالله بن محمد الشعيبي. جنة الفردوس الاعلى وهنيئا لعائلته بهذا الزوج والاخ والوالد والجد والاصدقاء والجيران . كثر الله من امثاله. فنحن بحاجة لاامثاله . ليعم الخير والبركة . وادعوا الله لك بالتوفيق على كتابتك عن هولاء الصالحين .الذي اتمنى ان يكونوا لنا قدوة نستفاد منهم .ولا نحتج على الزمان الي نعيشه غير زمانهم. وفقك الله لما يحب ويرضى