يوم من الجنّة على الأرض!
الجنّة منتهى آمال عباد الله المحسنين والمقصّرين، وما أجملها من موضع بأنهارها وأشجارها وثمارها وأطايبها، وما أكمل طريقة الحياة فيها وأخلاق أهلها، وفوق ذلك كلّه نوال رضا الرّحمن، والفوز برؤيته، والظّفر بإحسانه وزيادة، فيا ربّ لا تحرمنا ووالدينا ومن يقرأ وينشر، وبلّغنا بجودك ذلكم المكان، وأورثنا فيه من لدنك مقامًا عاليًا بفضلك وعفوك.
فتلك الجنّة ميراث عباد الله الصّالحين، الماضي فيها يذهب للنّسيان، والمستقبل مضمون، والحاضر جميل لا يوصف، والعنف ممتنع داخلها، والحقّ محبوب الجميع، والتّنازع مفقود، والحواس تحت التّحكم التّام، ولا غلّ فيها، ولا حسد، ولا جشع، فلا التهاء بالتّكاثر، ولا تقاطر على المصالح بتشاحن وتدافع، فيضحي الجميع إخوانًا على سرر متقابلين.
أمّا الأرض فمجمع الأحقاد والثّارات والعداوات، تختلط حوادثها ما بين خير وشر، ويكثر فيها الكدّ والكبد والنّصب، وقلّما يرضى أحد فيها دومًا، وجلّ بنيها يشكون دهرهم، ويتأفّفون من طباع أكثر البشر التي تشاكل سلوك الغابات، وتقبس من مكر الشّياطين؛ وأيّ هناء في عيش مع أناس نصف أخلاقهم وحشيّة، ونصفها الآخر شيطانيّة، وقليل من سلم أو تباعد عن هذه الخِلال.
فإذا جاء العيد اختلفت الأحوال، فمن خصائص هذا اليوم العظيم ربط اسمه بالسّعادة والبركة، ووصفه بأنّه يوم الجوائز أو يوم الحج الأكبر، وفيه تسود أخلاق كانت قبله شحيحة أو مقصورة على محيط دون غيره، فيصبح غالب النّاس مبتسمين، مسارعين للتّسامح، مستعدّين للتّعايش، تملأ محيّاهم البشرى، وتبرق عيونهم بالألفة، ولا تسمع الأذن إلّا ناعم الخطاب من الألسنة، ومضمونه كلمات صادقة عذبة، أو جارية في سياق المجاملة واللّطف.
ويغدو العيد سعادة تعمر القلب، وأملًا تُشرق به النّفس، وروْحًا تسمو الرّوح به، وبهجة تكسو المظهر، وفألًا يرسم المستقبل، وفرحًا يسود في المجتمع، وتبدو أجمل معانيه في طفل يبتسم، ويتيم يأمن، وفقير يكتفي، وغريب يأنس، ووحيد يُشارك، وغائب يعود، وحاجات تُقضى، ومختلفين يتصالحون، وفرقاء يلتقون، وقادر يعفو، وعلاقات تزدهر بعد أن باتت تقتات على أصولها، وما ذلك على الله بعزيز، فهو الذي شرع العيد، وهو القدير الحكيم؛ وكلّ يوم له شأن.
وحتى يكون العيد كذلك، فلا مناص من وجود كبير أو أكثر في الأسر والمجتمعات، كبير بعلمه، أو كبير بحكمته، أو كبير بجاهه، أو كبير بسلطانه، أو كبير بماله، أو كبير بقدراته ومواهبه، فيصنع من هذا اليوم فرصة لاختصار أزمنة طويلة، وتقصير مسافات بعيدة، وردم حفر كثيرة، وتلكم سيما عراقة الإنسان والمكان، والمسألة تحتاج لمن يشاور ثمّ يعزم ويتوكل على الله صابرًا محتسبًا، وما أحسن ترافق التّكبير للعيد مع التّبكير للمحبة والعفو.
ولأنّ عيدنا أهل الإسلام يتميّز بأنّه حقيقي وليس مجرّد ذكرى؛ بمعنى أنّه يرتبط بمواسم فعليّة تتكرّر بذاتها سنويًا عقب أداء ركن الصّيام في شهر رمضان، وخلال أداء ركن الحج، وليس اجترارًا لأمر حدث فيما مضى ثمّ انقضى، فلم يبق منه سوى حكايات عالقة بقدر مختلف في الوجدان، فإنّ هذه المزيّة تنشر قوّتها على المشاعر فيه؛ فتجعلها حقيقيّة وإن بنسب متفاوتة، ذات آثار أكيدة تدفع كلّ كبير للاستعداد، وتهيئة الحال لاستثمار المناسبة على الوجه الأكمل، وكم ترك الأوائل للأواخر من أمجاد وأفكار.
ومن التّوفيق أن نستصحب جمال العيد معنا قدر المستطاع، ونتغلّب على الجبلّة وضغط الواقع، وعلى العقلانيّة التي تقتضي مقابلة السّوء بمثله، فنتعالى عليها بالخلق القويم، وتطوير العادات السّامية، وفي يوم الجمعة فرصة أسبوعيّة لتثبيت معاني العيد، ولو بمقدار أقلّ، فمن يرفض العيش في ظلال يوم فيه شيء من الجنّة وبركاتها على الخلق والبقاع، وأيّ شقاء يجنيه بنو أبينا الشّيخ الكبير آدم عليه الصّلاة والسّلام حين تفوت عليهم هذه الفرصة المكسوّة بفيوض من عطاء الكريم الوهّاب بسبب عزّة آثمة أو كِبر بغيض؟
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
ليلة الأحد 28 من شهرِ رمضان المبارك عام 1440
02 من شهر يونيو عام 2019م
One Comment