إمارة مكَّة: الهمُّ الجميل!
منذ امتنَّ الله على المسلمين بفتح مكَّة في العشرين من رمضان عام (08) من الهجرة حتى يومنا هذا؛ حكم مكَّة مئتان وواحد وثلاثون أميراً يرجعون إلى عشر دول، وقد حصر الباحث الشَّيخ عبدالفتاح حسين راوه في كتابه جداول تاريخ أمراء البلد الحرام هؤلاء الأمراء حتى عام (1419)، وأظنُّ أنّ مثل هذا الموضوع جدير بالبحث عبر رسائل تاريخية وفقهية عن أمراء البيت الحرام، لأنَّهم ينفردون بشرف باذخ؛ فأي إمارة أجلُّ من إمارة الحرم؟ وأي خدمة أسنى من خدمة بيت الله وحرمه؟
وبكَّة بلد آمن بحكم الله وأمره، فمَنْ دخل المسجد الحرام أمِن حكماً، ومَنْ عاش في أكناف الحرم وجب عليه التَّحرز من الذُّنوب والآثام فالعقوبة مضاعفة عن مثيلاتها في غير الحرم، وإرادة الإلحاد فيها بظلم تستوجب الإثم والعذاب الأليم بمجرَّد العزم، حتى لو كان المريد بعيداً عن حماها، وقد تفاوتت أقوال المفسرين في معنى الإلحاد حتى نُقل عن ابن عبَّاس أنَّه تجارة الأمير، وعن غيره أنّه الاحتكار!
وروي أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- حين اختار عتَّاب بن أسيد -رضي الله عنه- أميراً على مكَّة دعاه فقال له: “أتدري على مَنْ استعملتك؟ استعملتك على أهل الله فاستوص بهم خيراً” وكرَّرها ثلاثا، وإذا صحَّ هذا الخبر فلا شيء يمنع من استمراره وصيَّة نبويَّة لكلِّ أمير على البلد الحرام.
وإنَّه لفخر كبير أن يُسمَّى الرَّجلُ أميراً على مكَّة، فالبلد مقدَّس وقد ارتبط به أكثر من نبي ورسول، وفيه أطهر بقعة أرضية وأكثر المواضع أجراً، وأهله أنقى الأعراق العربية، وفي جباله نزل القرآن؛ وبين جنباته دوّى، ومن رجالاته اختار الله الرَّسول الخاتم-عليه الصَّلاة والسَّلام- وفي بطحائه سطَّر الصَّحابة -رضوان الله عليهم- أصدق صور الإيمان والصَّبر والبذل، ومنه العشرة المبَّشرون وكبار الصَّحابة، وإليه ينتسب حكَّام ثلاث دول إسلامية متعاقبة، ومن أمرائه صحابة وتابعون وخلفاء كعتَّاب وابن الزُّبير وعمر بن عبد العزيز، وإن نسي التَّاريخ أحداً فلن يكون أمير مكَّة نسياً منسيّا، وسيتعاقب ذكره في الأجيال والكتب.
ومن التَّوفيق لأمير مكة الاهتمام بشؤون المسجد الحرام وتوقير أئمته، والاحتساب بإزالة المنكرات من مكَّة وما جاورها، فبوابة الحرم واجبة الطَّهارة لشرف الجوار، والرِّفق بأهل مكَّة عامَّة وبآل النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فضيلة لا ينأى عنها إلا مَنْ ران البلاء على قلبه.
وأعظم بالأمير الذي يجلُّ القرآن وحملته وأساتيذه عرباً كانوا أم عجمًا؛ فكتاب الله نزل في مكَّة؛ ومنها انتشر، وسيبقى القرآن في مكَّة وضواحيها كتاباً يُتلى ويُحفظ ويُجوَّد ويُرتَّل بتدَّبر يعقبه العمل الحسن، ولن يزول الكتاب العزيز منها إذ الزَّوال مكتوب على البشر؛ وكلام الله باقٍ محفوظ. ومن المآثر المنتظرة من أمير مكَّة العناية بلغة القرآن، والحفاظ على اللسان العربي من العجمة والاستعجام في ميادين الثِّقافة والتِّجارة؛ وهذه المأثرة النَّفيسة سيحفظها النَّاس لأمير مكة الحالي خالد الفيصل، وعسى أن تكون جوهرة في عقد طويل من المآثر.
ولا يصحُّ بحال أن يكون أمير مكَّة داعية بدعة، أو حامل فكر يتناقض مع أصل الدَّعوة الإسلامية التي انطلقت من شعاب مكَّة، ولا يتصور عاقل أن يستجلب أيُّ أمير للبلد المقدَّس الأصنام أو شيئاً من أمر الجاهلية الذي أبطله الإسلام أو هذَّبه، فأمير منزل الوحي ينظر إلى العالم كيفما شاء على أن تكون الكعبة مستولية على قلبه وعقله وماثلة أمام عينيه.
وللحجَّاج والمعتمرين واجب في عنق أميرهم، فهم وفد الرحمن؛ قد جاءوا يرجون ما عند الله، ويطلبون مغفرته وإجابة الدُّعاء، والأمير الصَّالح يجتهد في إصلاح ما يعين النَّاسك على أداء الرُّكن الخامس بأمن واطمئنان وبيئة صحيَّة وأسعار مناسبة ورجال يفرحون بخدمة الحاج وتوجيهه، ويعقب ذلك كله أن يغادر الزَّائر الدِّيار المقدَّسة بهداية دائمة وذكريات لا تُمحى، ولأمير الحج في تحقيق ذلك يد طولى إن نهض لهذا الفرض بنية وحزم.
وقد حكم مكَّة في العهد السُّعودي تسعة أمراء خلال تسعين عاماً تقريبًا، وكان الأمير عبد المجيد بن عبد العزيز-رحمه الله-أميراً على مكَّة بعد المدينة؛ وقد جمع الله له شرف إمارة المدينتين الأكثر قداسة، ومن طريف ما يُروى أنَّ فتاة ذات عشرة أعوام اتصلت بمكتبه إبَّان إمارته للمدينة، وألَّحت في الحديث الهاتفي معه مباشرة، فلما سمعت صوت الأمير قالت له: أنت مثل النَّبي! فاستغرب الأمير التَّشبيه واستنكره تعظيمًا لمقام الرّسول!
فأوضحت الفتاة أنَّ الأمير عبد المجيد أمير على المدينة كما كان النَّبي -صلى الله عليه وسلم- حاكماً لها وهذا وجه الشَّبه، ثمَّ أردفت مستنكرة على الأمير وجود دكاكين بيع الأغاني قرب المسجد النَّبوي، فما كان من الأمير إلاّ أن استجاب للحقِّ من فوره ولم يكابر؛ وأمر بإغلاق تلك الدَّكاكين، وإن إمارة مكَّة لحقيقة بمثل هذا الشُّعور ممَّن يحمل همَّ إمارتها، وهو همَّ ثقيل صعب بيد أنَّه جميل على مَنْ اتقى وأحسن، وما عند الله خير للأبرار.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الاثنين 24 من شهرِ ذي القعدة الحرام عام 1431
ahmadalassaf@gmail.com
2 Comments
اللهم احفظ مكة والمدينة المنورة واحفظ بلاد الحرمين حكاما وشعبا .ومتعها بالامن والرخاء والازدهار . قبلة جميع المسلمين اينما كانوا
اللهم آمين وجميع بلاد المسلمين