سياسة واقتصاد عرض كتاب

من ابنِ الراوندي إلى أبناءِ راند: الزنْدَقةُ تُجدِّدُ نفسَها

ابنُ الراوندي رمزٌ من رموزِ الإلحادِ والزندقةِ في تاريخنا الإسلامي، وهو أبو الحسن أحمدُ بنُ يحيى الراوندي نسبةً إلى قريةِ رَاوَند الواقعةِ بينَ أصفهانَ وكاشان في فارس، ولدَ عام 210 وتُوفي في الأربعين من عمره، مخلِّفاً وراءَه أكثرَ من مئةِ كتابٍ طافحةٍ بالمخازي والافتراءاتِ التي تُبَيِّنُ خُروجَه عن دينِ الإسلام، وقد كانَ يهودياً ثمَّ دخلَ الإسلامَ، وتنقَّلَ بينَ عدَّةِ مذاهبَ حتى ماتَ كافراً ملحداً، والعياذُ باللهِ من سوءِ الختام.

وله تصانيفٌ كثيرةٌ في الحطِّ على الملَّةِ، وتنقُّصِ النبواتِ والقرآنِ، وكانَ يلازمُ الرافضةَ والملاحدةَ، فإذا عُوتبَ قالَ: إنَّما أريدُ أنْ أعرفَ أقوالهَم. قالَ فيه ابنُ عقيل: عجبي كيفَ لم يقتلْ وقد صنَّفَ “الدامغ” يدمغُ به القرآنَ-كما زعم-؛ و”الزمردة” يُزري فيه على النُبُوات! وقال ابنُ الجوزي في المنتظم: وقد نظرتُ في كتابِ “الزمرد” فوجدتُ فيه الهذيانَ البارد؛ وحتى المعرّي هاجمَ ابن الراوندي وسفَّهَ آرائه الساقطة.

وبلغتْ به الدناءةُ والخِسةُ؛ أنْ ألَّفَ للشيعةِ كتاباً ضدَّ مذهبِ أهلِ السُّنة نظيرَ مبلغٍ زهيدٍ لا يتجاوزُ 33 ديناراً فقط؛ وألَّفَ لليهودِ كتابَ “البصيرة” يحتجُ لهم في إبطالِ نُبُوةِ سيِّدِ البشرِ- عليه الصلاةُ والسلام- مقابلَ 400 درهمٍ فقط، وما أرخصَ نفسَه عليه! وعَمِلَ نسَّاخاً للكتبِ؛ لكنَّه طُرِدَ من هذا العملِ وفشلَ فيه؛ لأنَّه يضعُ زياداتٍ وإضافاتٍ من عندِه على أصولِ الكتب.

وقد طلبَه السلطانُ بعد نشره أحدَ كتبه فاختفى عندَ ابن لاوي اليهودي، حتى ماتَ طريداً مستخفياً بين اليهود! وسردَ ابنُ الجوزي بلاياه في عدَّةِ صفحات؛ وقال الذهبيُّ في ختامِ ترجَمته: لعنَ اللهُ الذكاءَ بلا إيمانٍ ورضيَ عن البلادةِ معَ التقوى. ونُقلَ عن أبي عليٍّ الجبائي المعتزلي قولَه: قرأتُ كتابَ هذا الملحدِ الجاهلِ السفيهِ ابن الراوندي فلم أجدْ فيه إلاَّ السفهَ، والكذبَ، والافتراء؛ وكانَ ذكياً غيرَ زكيٍّ كما وصفهُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميِّة.

وبعد ألفٍ ومئتي عامٍ تقريباً من وفاةِ هذا الملحدِ الزنديق، صدرَ تقريرُ “راند 2007 “* بعنوان: بناءُ شبكاتٍ مسلمةٍ معتدلة؛ و”راند “هو أكبرُ مركزٍ فكريٍّ في العالم، ولهُ تأثيرٌ كبيرٌ على السياسةِ الأمريكيةِ خاصةً مع الحكومةِ الغازيةِ اليمينيةِ الحاليةِ؛ وللمركزِ فرعٌ عربيٌّ وحيدٌ في دولةِ (قطر!)، ويعلنُ هذا المركزُ تحريضَه الصريحَ ضدَّ الإسلامِ وشعائرهِ، وضدَّ بلدانٍ إسلاميةٍ على رأسها السعودية.

يوصي التقريرُ بتأييدِ التياراتِ العلمانية والليبرالية، والعصرانية والصوفية في العالمِ الإسلامي؛ لتتولى تغييرَ الإسلامِ، وحربَ جميعِ التياراتِ الإسلاميِّةِ دونَ تمييزٍ بينَ حملةِ السلاحِ وحملةِ الأفكارِ، أو بينَ المقاومةِ المشروعةِ وأعمالِ العنفِ، لتكتملَ بذلكَ حلقةُ الصراعِ ضدَّ الإسلامِ فكرياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً، فهو تقريرٌ عدائيٌ ضدَّ الإسلامِ وكلِّ تيارٍ إسلاميٍّ، بل وكلِّ مَنْ لا يُعادي الإسلامَ صراحة.

ويضعُ التقريرُ وصفاً للاعتدالِ بمفهومٍ ونكهةٍ أمريكيةٍ، تتناسبُ مع المصالحِ الاستراتيجيةِ الأمريكيةِ، على أنْ تُحاكمَ جميعُ أطيافِ العالمِ الإسلاميِّ إلى هذا المفهومِ من خلالِ اختبارٍ دقيقٍ لا يحتملُ غيرَ الكفرِ الصريحِ، أو الثباتِ على الإسلام.

وللمعتدلين حسبَ وجهةِ نظرِ “راند” مواصفاتٌ هي:  

  • قبولُ الديمقراطيةِ قبولاً كاملاً ورفضُ فكرةِ الدولةِ الإسلامية.
  • القبولُ بالمصادرِ غيرِ المذهبيةِ لتشريعِ القوانين.
  • احترامُ حقوقِ النساءِ والأقلياتِ الدينية. (مثل: حرية تغيير الدين؛ والإذن ببناء دور العبادة؛ وتولي مناصب سياسية عليا؛ والمساواة التامة بين الجنسين وفتح الباب على مصراعيه بلا حواجز للزنا والفجور).
  • نبذُ الإرهابِ والعنفِ غيرِ المشروع.

كما يدعو التقريرُ إلى تفسيرِ الإسلام بما يتماشى مع القوانينِ الدولية، وحقوقِ الإنسان، وحقوق المرأة، وإلى حمايةِ المعتدلين- بالمفهوم الأمريكي- من الحكومات التسلطية ومن الإسلاميين، مع ضرورة السماح للمعتدلين بانتقادِ أمريكا؛ لتحقيقِ قدرٍ من المصداقية والقبولِ الشعبي.

وينصحُ التقريرُ بتجاهلِ الدولِ في سبيلِ تحقيقِ هذه الاستراتيجية، مما يعني الاعتداء على سيادةِ البلدان؛ وينبه “راند” أتباعه إلى استغلالِ التعليم والإعلامِ، والعمل الإنساني الخيري لنشرِ مفاهيمِ الزندقةِ الجديدة، تحت ستار الاعتدال وما أجملها من كلمة! كما يؤكدُ التقريرُ على أهميةِ حشدِ النصوصِ الشرعيِّةِ التي تؤيدُ مفاهيمَ الاعتدالِ الأمريكي، ونشرِها بكلِّ وسيلةٍ بعيداً عن المسجد.

وقسَّمَ التقريرُ الأصنافَ التي يمكنُ التعاونُ معها إلى ثلاثِ طوائفَ هي: 

  • العلمانيون الليبراليون والأنظمةُ التي تُعادى الحكمَ الإسلاميَّ صراحةً مثلَ نظامِ تونس وهذه تزكيةٌ “راندية” للملأِّ في تونس!
  • العصرانيون بعد اجتيازهم اختبار الاعتدال.
  • التقليديون (الصوفية الشركية الوثنية).

كما حدَّدَ التقريرُ الأصنافَ التي يُمنعُ التعاونُ معها وهم:

  • التياراتُ الإسلاميةُ مهما كانت رخاوتها وعقلانيتها!
  • الأنظمةُ العلمانيةُ التسلطيةُ التي لا تُعادي الإسلامَ صراحة.

ونلاحظُ أنَّ ابنَ الراوندي ظهرَ في مركزِ العالمِ الإسلامي، ولم يكنْ مؤيداً من دولةٍ كافرة، وكانَ يخشى السلطانَ ويتنصَّلُ من بعضِ سوءاتهِ الفكريِّةِ إنْ خُوصمَ، واتخذَ من الكتابةِ والتأليفِ والمناظرةِ سبيلاً لنشرِ ضلالاتِه التي عادى فيها أكثرَ الفرقِ والمذاهبِ المنتميةِ للإسلام.

بينما أبناءُ “راند” لا يخافونَ من الحكوماتِ الإسلامية؛ لأنَّهم يستندونَ إلى ركنٍ أمريكي شديد، ويجاهرونَ بأفكارهم بلا خوفٍ أوتهيُّبٍ، ويتخذونَ من الإعلامِ والتعليمِ والعملِ الخيري طرقاً لدعوتهم الكفريِّة، محتجين بنصوصٍ شرعيِّةٍ على خلافِ دلالتها، ويحرصون على البدءِ بأطرافِ العالمِ الإسلاميِّ قبل مركزه، وهم كُثر- لا كثَّرهم الله- وليسوا رجالاً فقط؛ بل رجالٌ ونساءٌ وأشباه.

وإنَّ هذا التقريرَ فرصةٌ للمسلمين جميعاً أفراداً وجماعاتٍ ودولاً:

فرصةٌ ليعودَ النَّاسُ لربِّ العالمين.

فرصةٌ ليبحثَ كلُّ مسلمٍ عن مكانه في ساحةِ الجهادِ الكبرى المتنوعةِ وعن الثغرةِ التي يحرسها.

فرصةٌ لتراجعَ التياراتُ الإسلاميةُ نفسَها في المناهجِ، والبرامجِ، والسياساتِ العامَّةِ، فلم يعدْ مجرَّدُ التميعِ والتساهلِ وعباراتُ الرخاوةِ مقبولةً لدى أمريكا والغرب، بلْ لا بدَّ من كفرٍ صراحٍ يعرفُه الناشئُ قبلَ المُكتهل.

فرصةٌ لتوحيدِ الجهودِ الإسلاميةِ وفقَ الكتابِ والسنةِ على فهمِ سلفنا الصالح.

فرصةٌ لتتصالحَ الدولُ والحكوماتُ والشعوب.

فرصةٌ لاقترابِ الدولِ والساسةِ من الصالحينَ والأخيار الذين يستحيل تواطؤهم مع الخارج على الخيانة.

فرصةٌ لتعيدَ الحكوماتُ النظرَ في تعاملها مع التياراتِ البِدعيِّةِ والشركيِّةِ واللادينية.

فرصةٌ لتوجيه رسالةٍ تربويةٍ لعامةِ شرائحِ المجتمع.

فرصةٌ لتعزيزِ الدعوة إلى الله في أطرافِ العالمِ الإسلامي.

فرصةٌ للعلماءِ أن يقودوا حملةَ المواجهةِ والمقاومة.

فرصةٌ لقراءةِ العدوِّ وفهمهِ من داخله وإشغاله بنفسه أو في البلدانِ التي احتلها.

فرصةٌ لقيام مراكز بحوثٍ ودراساتٍ غير ربحيةٍ تهتمُ باستراتيجياتِ الدعوةِ والتحصينِ والمقاومة.

فرصةٌ لتوبةِ مَنْ “تعلمن” أو “تلبرر” دونَ أنْ يتوقعَ هذا المستوى السحيقِ من الانحدارِ؛ أو لمن يبحثُ عن سبيلِ نجاةٍ وعودة ممن تورط بانتماء مشبوه.

فرصةٌ للمزيدِ من البلاءِ الحسنِ حتى نلقى اللهَ ثابتين على الحقِّ الذي نعتقده.

فرصةٌ لتمايزِ الصفوفِ وفضحِ أعداءِ اللهِ الذين سيظهرون بلا حُجُب.

فرصةٌ للعنايةِ المضاعفةِ بالمرأةِ المسلمةِ والدفاعِ عنها من داخلِ عالمها فضلاً عن خارجه.

فرصةٌ لدعوةِ “الأقليات” للإسلامِ والسُنَّة.

وما أكثرُ الفرصِ لمن تأملَّ ونظرَ بعينِ بصيرته وهمومِ مستقبلِ أمته؛ فإنْ استجمعنا لهذه المنحِ قوانا وقدراتنا فثمَّ الرشادُ والنُجُح، وإنْ تركناها صارتْ غُصَصا مليئةً بالويلاتِ والمحنِ؛ وعبادُ الرحمن أولى النَّاسِ بالحكمةِ في التفكيرِ والتصورِ، وفي التخطيطِ المتقنِ والأداءِ المنضبط، مستعينين بالله متوكلين عليه- سبحانه-.

* للمزيد حول هذا التقرير ينظر: استراتيجيات غربية لاحتواء الإسلام: قراءة في تقرير راند2007-د. باسم خفاجي/المركز العربي للدراسات الإنسانية- سلسلة رؤى معاصرة.

الرياض- الخميس 28 من شهر جمادى الأولى عام 1428

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)