سير وأعلام

نصيف: علم وعمل وعطاء!

نصيف: علم وعمل وعطاء!

هذا رجل جمع من الفضائل ما تفرّق في غيره، وحاز من الخصال الحميدة ما انقسم في الآخرين، ولذا أحبّه من عرفه لدرجة تشبه العشق. ويشعر من رآه بالسّكينة والسّعادة من مطلعه الصّبوح البهي، ووقاره المهيب، فإذا تعامل معه فسيزهد في التّعامل مع غيره من بني أبوينا آدم ونوح عليهما الصّلاة والسّلام.

يقول د.عصام فلالي وهو أحد طلّابه: درّسنا مادة الجيولوجيا، وربط علمه بالإيمان ربطًا لطيفًا منطقيًا، ولم يأمرنا بشيء لم يفعله هو! وكان مشرفًا على النّشاط الجامعي مع علو مكانته الوظيفيّة في وكالة الجامعة ثمّ إدارتها، فصرف شيئًا من جهده وحرصه على الأنشطة وطلبتها، واشترط عليهم التّفوق الدّراسي قبل المشاركة في حصص فروسيّة إضافيّة، وجعل ذلك قيدًا للمشاركة في الرّحلات المحليّة والدّوليّة، إذ استقر في نفسه أنّ النّبوغ والنّشاط قرينان يجتمعان.

ابتدأ نصيف نشاط الجوّالة في جامعة الملك سعود بالرّياض، ثمّ نقل التّجربة معه إلى جامعة الملك عبدالعزيز بجدّة، وشارك في معسكرات الجوّالة خلال موسم الحجّ حتى في سنة تخرّجه. وحرص على إدخال التّقنية في العمل الكشفي بالحج لتحديد المواقع ومسح المنطقة، وحين طلب منه الملك فهد التّفرغ من جميع الأعمال عقب تسميته نائبًا لرئيس مجلس الشّورى، استثنى أبو عمر الكشّافة!

وهو قدوة في التّعبّد، فبعد أن يقف لاستقبال الحجّاج أمام الخيام، ويطمئن عليهم إلى حين ذهابهم لفرشهم، ينتصب قائمًا يصلّي الوتر الطّويل دون أن يجبر أحدًا على الاقتداء به. وهو قيادي مؤثّر؛ يصادق من يخالفه في الرّأي؛ لأنّه ذو شخصيّة إيجابيّة تعايشيّة، يهفو لإسعاد الآخرين وليس في قاموسه إغضاب أو مشاحنة. ومن يراه لا يظنّه المسؤول الأوّل في المكان؛ إذ يجيد التّوجيه بهدوء، مع طلاقة المحيّا، وصفاء النّفس المشّعة ببسمة دائمة.

كما عرف عنه محبّته للإحسان والعفو، ومسارعته إلى إغاثة أمّته، وكان يزور المراكز الإسلاميّة في العالم كلّه، ويجمع النّاس على كلمة لا إله إلّا الله دون نظر لدقائق الخلافات، وتربو أهميّة زياراته على زيارات الزّعماء بحفاوة الاستقبال، وكثرة المشروعات النّافعة للأمّة والجاليات المسلمة، ولذلك لا تكاد الجالية الإسلاميّة في بريطانيا تجتمع على شخص كما اجتمعت على نصيف مع كثرة اختلافها مع الأسف.

ويحرص في زياراته على الجلوس مع الطّلاب المبتعثين في الأندية السّعوديّة، ويقف في الصّف خلال وجبة الطّعام، ويرفض أن يحظى بمعاملة تفضيليّة كما أخبرني د. صالح بن بكر العليان. وتمتاز زياراته بأنّها تمنح دافعيّة للآخرين، وتزيدهم موثوقيّة بالدّعم والمؤازرة، وتلك سمة القيادة التي تعمل بنشاط ودأب لا يكلّ دون ضجيج.

ولا يجد فرقًا بين الوطن والأمّة، فالوطن جزء من الأمّة، والأمّة سند للوطن، فكيف إذا كان هذا الوطن يحوي أقدس بقعتين لدى الأمّة؟! ولأجل ذلك كان يحثّ الدّعاة، والكشّافة، والمبتعثين، على حسن تمثيل دينهم وأمّتهم وأوطانهم، ولم يظهر منه نفرة في التّعاون مع أيّ مسلم لنفع هذه الأمّة وتحقيق خيريتها، حتى غدا له نصيب من الإحسان في بقاع كثيرة.

ومن جرأته في التّأهيل والتّدريب، أن أحال تنظيم حركة المرور داخل الجامعة إلى شباب الجوّالة، وقد لا يصدّق القارئ أنّ طلبة الجوالة شاركوا في تنظيم حفل افتتاح الملك خالد لسكن أعضاء هيئة التّدريس، وحين حاول المسؤول الأمني الاستغناء عنهم أبى نصيف متحمّلًا المسؤوليّة -وهو موقف تكرّر منه في مناسبات ملكيّة أخرى-، فارتفعت معنويّات الشّباب كما يقول د.فلالي -وهو طالب معهم حينذاك-.

ونظرًا لبراعتهم وإبداعهم عاد إليهم المسؤول الأمني ليطلب منهم ترتيب دخول الضّيوف لخيمة الحفل الملكي بعد أن كان متحفظًا على مشاركتهم من الأساس. ومن طريف ما يذكره د.عصام، أنّهم في صباح باكر وجدوا سيّارة صفراء ذات صندوق تشبه سيّارات الخدمة، تحتلّ موقف مدير الجامعة، فهمّوا بتكبيلها أو إخراجها، بيد أنّهم لم يفعلوا حين علموا بأنّ السّيارة تخصّ معالي المدير د.نصيف، الذي وجد مركبته الفخمة متعطلّة فجاء بذات الصّندوق كي لا يتأخر عن عمله؛ مع أنّ أحدًا لن يسأله متى حضر؟!

ولنصيف نظرة مستقبليّة سبّاقة، فقد عقد شراكات عالميّة لجامعة الملك عبدالعزيز في زمن لم يكن يلتفت أحد إلى مفهوم الشّراكة. وحرص على التّدريب الكشفي، والحصول على الشّارات والأوسمة للارتقاء بالحركة الكشفيّة وتمهير روّادها، وإفادة المسلمين من خلال منظمّاتها الدّوليّة. ومن هذا الباب تعاونه مع النّدوة العالميّة للشّباب الإسلامي، واستقطاب طلاب وافدين للجامعة من شتى بقاع الدّنيا، ولنعم السّفراء هم، ولنعم القوّة النّاعمة هم.

ومن طاقته الإيجابيّة المتدفقة، مشاركته في النّادي العلمي السّعودي بهيئة المساحة الجيولوجيّة، وحرصه على نشاطاته العلميّة، ورعاية طلّابه المتفوقين والموهوبين ببرامج محليّة ودوليّة، حسبما أنبأني مدير النّادي د.عبدالحفيظ تركستاني، وكان د.نصيف نائبًا لرئيس مجلس الإدارة. ولمعاليه الفضل بعد الله في تأسيس هيئة الإعجاز العلمي في القرآن بعد أن اقترحها الشّيخ الزّنداني، ووافق عليها الشّيخ ابن باز، واستجلب لها د.نصيف تبرعات نقديّة من الأثرياء كما قال لي الأستاذ عبدالله الغازي.

كما يمتاز د.نصيف بحسن الاستشهاد بالنّصوص الشّرعيّة، إذ يقول لمن يريد تخفيف وزنه دون عمل جاد: “الكيّس من دان نفسه والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني”، وبعد إنشاء هيئة الإغاثة الإسلاميّة العالميّة في غرفة واحدة ضمن مقر الرّابطة، تعاظم نشاطها بفضل الله ثمّ بجهود فارسها الرّاحل د.فريد بن ياسين قرشي ودعم نصيف وتأييده الذي يقول: هي تذكرني بحديث أن تلد الأمَة ربّتها!

ويعرّف الهيئة بأنّها مؤسّسة خيريّة إغاثيّة غير مسيّسة، ويعلن ذلك في البلاد التي يزورها، ويفضّل أن يدير الفروع أشخاص معروفون لديه قدر الإمكان، ويصرّ على الابتعاد عن مواضع النّزاع وساحات القتال؛ كي لا يؤتى العمل الخيري من هذا الباب، ويعيد على مسامع العاملين نصيحته بأن يصبحوا مثل الماء بلا لون، ولا طعم، ولا رائحة، وكلّ أحد يحتاجه ويقدّره.

كما أنه بعيد عن التّعقيد الإداري، فالتّفويض سمة له، والمتابعة مع حسن التّوجيه ديدنه، ومنح الثّقة لأهلها سلوك لا ينفكّ عنه، وتسهيل الإجراءات صفة تغلب عليه حسبما روى لي الأستاذ علي بن إبراهيم القاسم من وزارة المالية، إذ زاره وهو مدير للجامعة للحصول على معلومات ماليّة، فأعطاها له بسماحة وتعاون، لدرجة أنّ المهمّة انتهت في اليوم نفسه، وعادة أمثالها أن تطول، بيد أنّ نصيف ليس لديه شيء يخيفه أو يخفيه!

إنّي بعد ترحال مع سيرة رجل لم أشاهده مباشرة وإنّما سمعت عنه، لأعجب من اجتماع العلم والعمل والعطاء بوفرة في إنسان واحد، فهو عالم شريعة وجيولوجيا في الأوّل، ورجل نشيط مقدام في الثّاني، وإنسان نبيل عريق في الثّالث. علم حتى أتقن، وعمل دونما راحة، ومنح بلا منّة، والله يجعله من رجال مؤمنين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وما بدّلوا تبديلًا؛ حتى يلقونه راضيًا عنهم، وقد أرضاهم عنه بفضله وعفوه سبحانه.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الاثنين 13 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1440

18 من شهر فبراير عام 2019م

Please follow and like us:

One Comment

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    الكاتب الفاضل احمد حفضه الله ورعاه جزاك الله خيرا . بكتابة هذا المقال عن الدكتور عبد الله عمر نصيف شفاه الله وعافاه . اللهم يارب الارباب. ويا معتق الرقاب. ويا منزل الكتاب .يا من ترزق من تشاء بغير حساب.يا راد موسى الى امه . ويوسف الى ابيه. اشفي عبدك الصالح دكتور عبدالله ورده معافى الى اهله ومحبيه . كثر الله من امثاله . فهو الذي استطاع ان يوفق بين العلم والعمل والعطاء . كريما معطاء بماحباه الله ورزقة من خصائل. اعطى لكل ذي حق حقه . لايسعني الا ان اقول هنيئا لبلده بلاد الحرمين الشريفين حفضها الله من كل سوء من هذاالمواطن الصالح البار . و لعائلته واولاده واحفاده واقاربه . الحمد لله رب العالمين الذي يجمعني بهذا الرجل الصالح الاخوة بالدين. اذ هو اخي في الاسلام فلي كل الاعتزاز والفخر له ولكل واحد من امثاله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)