عمر آل الشيخ وقصد نحو السّبيل السّامي!
في عام (1224=1809م) توفي الشّيخ حسين نجل الشّيخ محمّد بن عبدالوهّاب، نتيجة وباء اجتاح الدّرعيّة، ويشاء الله أن يكون أوّل طبيب ينتمي لأسرة الشّيخ المجدّد من أحفاد هذا الابن الرّاحل بالوباء، وهو د.عمر بن عبدالعزيز بن عبدالله بن حسن بن حسين بن علي بن حسين آل الشّيخ.
ومع أوّليّة الطّب داخل أسرته، أصبح أسبق فرد فيها -فيما أعلم- إلى كتابة سيرته الذّاتية، ونشرها، في كتاب عنوانه: قصد السّبيل… نحو السّمو، صدرت الطّبعة الأولى منه عام (1440=2019م) عن العبيكان للنّشر، ويقع في (128) صفحة، ويتكوّن من إهداء ومقدّمة، ثمّ خمسة فصول بعدها الخاتمة، وضمن الفصول خمسة وثمانون عنوانًا فرعيّاً، وتستفتح المقدّمة والخاتمة وكلّ فصل بكلمة عمرية وجيزة ومعبّرة.
جعل د.آل الشّيخ الإهداء إلى من يحمل بين جنبيه رسالة سامية، وهمّة عالية؛ لأنّ الحاجة لهؤلاء كانت وستبقى قائمة، ووعد القارئ في البدء بالانطلاق من السّيرة دون تركيز على دقائقها، مشترطًا على نفسه أن تصف مسيرته السّمو في المنطوق والمفهوم مع مراعاة الاختصار، وتقديم الحقيقة دون تحريف أو زيادة.
ويرى د.عمر أنّ كتابه استمرار لرسالة العلم التي اشتهرت بها أسرته العريقة، ويتمنّى أن تكون ملهمة للقارئ، باعثة للهمّة، موقظة للطّاقة الإيجابيّة، مطمئنة للمريض، وأن تغدو لبنة محكمة في بناء مجتمعنا، وهذه المعاني النّبيلة تحيط بهذه السّيرة الجامعة بين مكنون الذّات، وثمار الفكر، وحصاد التّجربة، والنّظر للمستقبل.
ظلال الأسرة هو أوّل فصول الكتاب، وفيه طرف من مسيرة والده التي لما تكتب بعدُ، وهو أوّل دارس من أسرة آل الشّيخ في الأزهر طوعًا، واجتمعت له في عام واحد الخطابة في الحرم المكي، وخطبة عرفة في جامع نمرة، ومنصب وزير المعارف، ويتضح من أخبار هذا العالم الوزير أنّ التّعليم كلمة مفتاحيّة في حياته، وله في رحاب التّعليم والقضاء مواقف، وحضور، وتأليف.
توفي الشّيخ وابنه يدرس خارج المملكة، فعاد ليقف على قبره في مشهد حزين، وأيّ حزن أعظم من الوقوف على شفير قبر حبيب راحل؟ ثمّ شرع الابن يتذكر مجريات حياة والده في بيته، ومجلسه العامر بالزّوار من أطياف شتى، مع شيء من لفتاته التّربويّة، وصدعه بالحق، واشتغاله بالعبادة، ويبدو لي أنّ هذا الرّجل جمع بين الدّيانة دون غلو، والانفتاح بلا تنازل، والصّلابة فيما يعتقده صوابًا.
وعرّج المؤلّف على وفاء أمّه لوالده وحسن صحبتهما معًا، وأشاد بحرصها على أن يكون بنوها من البررة الواصلين لرحمهم، وأفصح عن شعوره الأليم إبّان رحيلها، ثمّ ذكر القيم الحياتيّة التي اقتبسها وإخوانه وأخواته من الأبوين الكريمين، وعلى رأسها حسن الظّن، وإجراء الأمور على طبيعتها، وربط الحياة بأهداف راقية.
وممّا اكتسبه من والده على وجه الخصوص القدرة على الحديث بلغة فصيحة سلسة، إذ كان يخاطبهم بها، فوعوها منذ الصّغر، ويفعل الشّيخ ذلك تقديسًا للغته مع أنّه كان يفتخر لاحقًا بأنّ ابنه عمر يجيد مع العربيّة الألمانيّة والإنجليزيّة، ولا تعارض مادام المرء يقدّم لسانه المبين عن هويته وثقافته.
لم ينس المؤلف الإشارة إلى أشقائه وشقيقاته، وهم على مستوى عال من التّأهيل العلمي، وأصحاب خبرات عمليّة متعددة، وفيهم وزيران سابقان، وجميعهم مثله يتلهفون لنفع المجتمع، ورعاية مصالحه، ولا غرابة فالمشرب العذب واحد. ومن الّلافت أنّ الحكيم عمر-وهو يحب الحكمة ويدعو لها- حين كتب عن أختيه ذكر أنّ والده تعاقد مع معلّمات لتدريس أكبرهما قبل افتتاح المدارس، وأثني المؤلّف عليهما خيرًا، ثمّ أضاف للكبرى “أل” التّعريف إجلالًا فهي المنيرة، ووصف الصّغرى هندًا بأنّها طريدته، ألبسها الله لباس الصّحة، وشفاها من السّقم.
وبحبٍّ مع امتنان أطرى زوجه الفاضلة، ووصفها بالقرب منه في جميع الأحوال، وشكر لها عونها ومساندتها له، وثقتها الكبيرة به. وبأبوّة حانية انصرف للحديث عن بناته السّت وابنه الوحيد، وذكر أنّ طريقته معهم تقوم على الحوار والصّراحة والحريّة المنضبطة، وهم بالنسبة إليه ثروته العظمى، ويراهم غنمًا لا يدانيه شيء حتى تربعوا على سنم أوقاته وحياته، ويحمد الله على جميل أخلاقهم، وتجدّد ثقافتهم، وتنوّع مساراتهم العلميّة.
عنوان الفصل الثّاني: العلم قبل العمل، وهو عنوان متأثر بدعوة جدّه الإمام، وسرد فيه مشواره الدّراسي منذ أوّل يوم حتى ختام دراسته العليا، وعبر بالقارئ خلال عقود ذاكرًا معاهد ومدارس وجامعات، وزملاء وأساتذة وذكريات في العلم والتّربية والبحث، ساهمت في صبغ شخصيته العلميّة، وأفادته في القدرة على الخطابة، وابتداء الحوارات المفيدة.
ولم تغب الأوّليّات عن دراسته، إذ درس البكالوريس في جامعة فيينا التي تخرّجت فيها أوّل طبيبة نمساوية، وأكمل التّخصّص في جامعة بون وفيها تخرّج أوّل مستشار لألمانيا الغربيّة، وانضم إلى هيئة التّدريس بجامعة الملك سعود أوّل جامعة سعوديّة، وحاضر في كلّية الطّب فيها وهي أوّل كلّية طب في المملكة!
أمّا نصيب العمل فكان في الفصل الثّالث بعنوان: مسيرة وبناء، وهي مسيرة وثّابة قامت على قطبي التّعليم والتّطبيب، وهما عنده جناح أيّ أمة، فالأوّل يرفع الجهل، والثّاني يقضي على المرض، وأيّ مجتمع يسلم من غوائل الجهل، وينجو من جوائح المرض، فلن تقف في طريقه العوائق، وسينتصر على الفقر، والتّخلّف، والأعادي، ولن يهاب المرجفين، أو يصدّق المنافقين.
وأصبح التّعليم والتّطبيب لبعضهما البعض منبعًا ومصبًا، فلكلّ واحد منهما أثر على الآخر، وفي سجلّه الوظيفي كفاح للارتقاء بتخصّصه، وجعله قسمًا بدلًا من وحدة ضمن قسم آخر، ولا غرابة بعد هذا الجهد أن يكون أوّل رئيس لقسم الجلديّة الجديد. وفي هذا الفصل عصارات من خبرة لا يستغني عنها المعلّم والأكاديمي، وخطوط عريضة تعين الطّبيب في تعامله مع المرضى، وقمين بهما أن ينهلا من خبرة منشورة بنصح ووضوح.
يختصّ الفصل الرّابع بالالتفات إلى خدمة المجتمع، وهي أعمال حثّ عليها ديننا، وجدير بنا أن نوليها العناية، فخير النّاس أنفعهم للخلق، ولذا ترأس د. عمر الدّورة الأولى للجمعيّة السّعوديّة لأمراض الجلد وجراحته، وشارك في أعمال تطوعيّة ضمن مجال علمه واهتمامه على مستوى المملكة، والخليج، والعالم العربي، والمجتمع الدّولي.
وإذا كان المؤلّف قد ارتبط محليًا بتخصّص الجلديّة فلا يذكر أحدهما دون الآخر، فله شطر كبير من الاهتمام بتقنية النّانو، وكم من محاضرة عن النّانو ألقاها، أو دراسة أجراها، فضلًا عن حضّ طلّابه وزملائه على التّوسع فيها، وفي التّعليم المبني على حل المشكلات، وإجادة البحث العلمي، وإتقان التّحكيم على أصوله.
معانٍ أعيش بها هو عنوان آخر الفصول، وطاف بنا أبو محمّد منطلقًا من أعماقه ومشاعره وأفكاره، وأبان عن نظرته في جوانب إيمانيّة، وحقول ثقافيّة، وأسس علميّة، وقضايا مجتمعيّة، وشؤون تنمويّة، وخبرات عمليّة، وشذرات من الحياة، مع قطوف من كريم السّجايا وعظيم الأخلاق، وكلّ واحدة منها تستأهل أن تفرد بحديث، وجلّها يمكن أن تكون اقتباسات مفيدة، وتغريدات مؤثرة.
وجاءت الخاتمة لتؤكد على المعاني والقيم المبثوثة في أرجاء كتاب غزير الفائدة، يحكي عن تكنوقراط بذائقة مشيخيّة، شغوف بالعلم، مسكون بالبحث، متشبّث بسمو الخلق، حريص على مصلحة مجتمعه وبلاده، متطلّع إلى التّنمية والنّفع المستمر، وسيجد فيه القارئ إضافات أخرى تركتها له.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الأحد 28 من شهرِ جمادى الأولى عام 1440
03 من شهر فبراير عام 2019م
5 Comments