لغة وأدب

سؤال وجواب على طريقة الإنجليز!

سؤال وجواب على طريقة الإنجليز!

كتبت فيما سبق مقالة عن الرّدود المفحمة استجابة لطلب عزيز، وفي تضاعيف نقاشها مع بعض الأصدقاء، كنت أحدّثهم عمّا قرأته أو سمعته حول طريقة الإنجليز-بالمعنى الجغرافي الواسع للكلمة- في السّؤال، والجواب، وبقيّة الكلام، ورأيت أن أكتب ذلك؛ للفائدة المتبادلة، والحفظ.

يشتهر الإنجليز بأنّهم شعب لا يغلي دمه بسرعة؛ وتلك لعمر الله مزيّة نحتاجها؛ لما نسمع من حوادث مفزعة بسبب كلمة، أو منافسة على ثوان معدودة في شارع أو متجر، مع أنّنا أمّة للآخرين وللطّريق في دينها حقوق، وفي السّنة الشّريفة ثناء على الأناة والحلم، والحلم هو الصّفة المترافقة مع بشارة الملائكة لإبراهيم بإسماعيل عليهم السّلام.

كما يقدّس الإنجليز تقاليدهم؛ فينضبطون بالصّف ولو كان الواقف واحدًا، ولا يتنازلون عن شاي الخامسة، وأزياؤهم في المناسبات محافظة وأنيقة، ويا ليت بعض نساء المسلمين يحافظن على الاحتشام دومًا كما تفعل المرأة الإنجليزية الارستقراطية، وليت أنّ بعض الرّجال يرتدون إذا قاموا للصّلاة أزين حلّة.

ولهذا الشّعب العريق صاحب الرّسوم المرعيّة، والآداب المصانة، طرائق للحديث والنّقاش فيها هدوء، وأدب، وحكمة، ومكر، وبعد نظر، ومخارج واحتمالات، ومنها:

الجواب يعتمِد:

إذا لم يكن الإنجليزي واثقًا من المعلومة، أو تكاثرت لديه الاحتمالات، أو أراد وضع خطّ رجعة له، صدّر جوابه بكلمة يعتمِد؛ ثمّ يسرد ما يشاء وهو مطمئن بناء على هذه الكلمة، وبالتّالي فلا يستطيع أحد إدانته، ويضمن القدرة على التّراجع عند الحاجة دونما حرج.

السّؤال المحاط بالأشواك:

لديهم طريقة ماكرة في السّؤال، تأتي على غرار: هل لازلت تضرب زوجتك؟ وأيّاً كان الجواب بنعم أو لا فأنت مدان، والحكيم من يقول: نحن لا نضرب زوجاتنا من الأساس، بيد أنّه جواب يغيب في غمرة الاستعجال والإنكار، ومن جنس هذا السّؤال ذي الأشواك حصر الجواب باحتمالين، فيقع المسؤول في حيرة.

الاستئذان البارد:

يشتهر لديهم هذا الأدب المتصنّع، فقد يقول رجل الأمن لمطلوب: أتأذن لي يا سيدي بأن أعتقلك؟! ولو فكّكنا العبارة؛ لوجدنا أنّ المعتقَل لا يكون سيّدًا، ولا يحتاج اعتقاله لإذن منه غالبًا. وقد يعود هذا الّلطف مع المكر إلى أنّ إلقاء القبض يعبر من خلال منظومة عدليّة، وإجراءات صارمة، بعد زوال ليالي الأخذ والغلّ عندهم إلى غير رجعة.

ابن عم الكلام:

يعرف عنهم مجانبة توجيه الكلام المباشر، والبعد عن الإجابة الصّريحة المحرجة، وفي ذلك أدب مع الطّرف المقابل، وجعل كلماتهم حمّالة أوجه، فربّما يقول مديرك: أرغب في مشاركة العمل معك، دون أن يضطر لإخبارك بأنّ أداءك لم يعجبه.

ألفاظ عسليّة:

يستخدمون كثيرًا كلمات لطيفة فيها شكر، وتودّد، وإذن، حتى لو كان المخاطَب بغيضًا، أو المخاطِب غاضبًا، وأهل الإسلام أحرى بأن يقولوا خيرًا أو يصمتوا، ومن السّنة مكافأة صانع المعروف بشكر أو دعاء.

الحذر من آفتين:

يتوجّس الإنجليز من آفتي القطع والتّعميم، فيكثرون من كلمات مثل أحيانًا، ربّما، يبدو، من الممكن، يحتمِل، يشاع، وأضرابها، فيتخلّصون بذلك من بلاءين هما الحمق المرتبط مع القطع الدائم، والظّلم المترافق مع التّعميم، ولذا يندر الجزم في أحاديثهم، وياله من مخرج.

هذا ما أمكنني تقييده، ولعلّه أن يؤدي الغرض، ومن الطّبيعي وجود استثناءات أو ثغرات في التّطبيق، ومن الحكمة معرفة نهجهم هذا؛ فقد يقولون كلامًا نفهمه على وجه، وهم يعنون به وجهًا آخر، ويتأكد ذلك مع الثّقة العمياء التي يمنحها فئام من قومنا للأجانب، بينما هم يرونها سذاجة ونقصًا، ويميلون مع المصلحة حيثما سارت، والله يلهمنا الحنكة، واليقظة، والإصابة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الاثنين 04 من شهرِ ربيع الأول عام 1440

12 من شهر نوفمبر عام 2018م

 

Please follow and like us:

3 Comments

  1. الاخ الفاضل الكاتب احمد العساف حفظه الله ورعاه
    اردت ان اكتب لك بعضا ما لمسته من العيش قريبا من عائلة انكيزية في شقة صغيرة تابعة لبيتهم . صاحب السكن والده كان عضو برلمان في الخمسينات متوفي . وهونفسه كان ملاك . يمتلك عدة دور في الشوارع القريبة من مسكنه يؤجرها .ومصنع لانتاج غذاء للدواجن على قطعة ارض يملكها . قام مشكورا ببيعها لااقامة الجامعة عليها . بعدما كانوا اهل المدينة انذاك لايرغبون بانشاء الجامعة التي قبل بها زوجي . حتى لاياتي الغرباء الى المدينة . وزوجته سيدة رائعة احبتني وعاملتني كاخت صغيره لها وانا احببتها لحسن خلقها وطيبتها وتواضعها . فقد كانت تعتبرني واحدة من عائلتها . عشت حوالي ستة سنوات في شقتهم .وبقيت على علاقة بها الى الان .كل ماذكرته عن عادات الانكيز صحيحا.انا كنت اتصرف بما تربيت عليه من عادات وقيم والعرف ماتعارف عليه من طبائع وعادات فيما بينهم في عصر واقرها العقل والشرع والفطرة . الثاني تعاليم ديننا الحنيف الذي تربينا عليه من اهلنا ومعلماتنا ومدرساتنا في وقتنا عشناه بعصر ذهبي . والله ماخسر اي انسان جمع بين هذين الاثنين . قدوتي امي التي توفيت على السجادة وهي تصلي صلاة الفجر .والتي كانت تردد علي . سوف لاتعيشين سعيدة وانت تفكرين بالحلال والحرام .انت التي ربيتيني عليه ياامي تركتيه في . والذي . استفدت منها وانا اتنقل في مشارق الارض ومغاربها .الاستقامة التي يعتبرها ناسنا بانها هبالة وضعف ولربما سذاجة . وانا اكتب سالت ابنتي التي هي من هذا الجيل الذي عايشته هي بمراحل دراستها متوسطة وثانوية وجامعة ودراسات عليا وتدريس في بيئة متشابها.اجابتني ان الجيل الجديد يتضايق من التصرف الاصطناعي او ادبا زائدا عن حدوده . يفضلون ان يكونوا على طبيعتهم

  2. جميل ورائع ما ألقاه قلمك البديع أخ أحمد وأيضا من عادتهم الصنعة في الحديث خاصة اذا أراد أحدهم إثبات وجة نظر أو انتصار لرأي فإنهم يلتمسون أوضح العبارات وأخصر الجمل مع تباين في نغمة الصوت ارتفاعا وانخفاضا، وإثباتا وتحفظا. ومن تابع برامجهم الشهيرة مثل: السؤال الكبير The beg question، يرى هذا جليا.
    أيضا لاحظت أخ أحمد أنهم لا يتورعون في مناقشة أي موضوع. وأعني أي موضوع سواء كان عاما أو خاصا، دينيا أو لا ديني…الخ. وهذه النقاشات والبرامج يستقطبون لها أربابها من أهل الاقتصاد والاجتماع والسياسة والدين والفكر…الخ. فتقف معجبا ومتعجبا من هذا الكم المعرفي والأدبي والفكري الهائل والثراء المعرفي في شتى ضروب العلم حتى في طريقة نقاشهم واختلافهم في وجهات النظر فيه لذة وذوق!
    وأنا حقيقة أتمنى مثل هذه الندوات تقام ويحضرها ربّانها وأهل بجدتها من المفكرين والساسة والمصلحين والاجتماعيين وأن يكون هناك حرية في النقاش وطرح الموضوعات التي كانت ولا يزال بعضها توصم “بالعيب” أو تلامس أوتار لا يريد البعض إما جهلا أو اتقاء مناقشتها علانية مثل حق الإنسان في الإلحاد والمثلية والحكم والمرأة….الخ. وأجزم أن في ثقافتنا روافد تسند وشوارد تُعجِب وحكما تعجِز ولكن تحتاج الخرّيت الماهر والكشّاف الثاقب والمحدّث اللوذعي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)