تقريب المدارج لك!
تحتوي المكتبة العربيّة والإسلاميّة على إرث ضخم من المنتجات العلميّة التي تبرز جهود أسلافنا في العلم والحضارة، ومع ضياع جزء منها بالسّرقة، والحروب، والإتلاف، والتّفريط، بقي جزء آخر يرفد ثقافتنا، ويحفظ لها إمدادها العظيم من لدن أولئك الأسلاف العظام رحمة الله عليهم، ولذا حظي هذا الإرث بعناية المعاصرين في التّحقيق، والتّقريب، والشّرح.
وبين يديّ كتاب تقريب مدارج السّالكين للإمام ابن قيّم الجوزيّة رحمه الله، الذي عكف على إعداده مجموعة من الباحثين، وأصدرت دار ابن الجوزي الطّبعة الأولى منه عام ١٤٣٩ في (٧٦٤) صفحة على ورق نباتي، ويتكون من مقدّمة التّقريب، ثمّ مقدّمة ابن القيم، فوقفات مع سورة الفاتحة، يعقبها (٨٦) منزلة تبدأ من البصيرة وتنتهي عند التّوحيد، وفي بعضها توسع مثل منزلة التّوبة.
ويسعى هذا المنجز المحكم لتقريب كتاب مدارج السّالكين بين منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، للإمام ابن القيم أنجب تلاميذ المدرسة التّيميّة الشّامخة، وتولاه بأمانة العلم، وصدق العزيمة، خمسة أكاديميين وباحثين هم: د.صالح بن عبدالعزيز المحيميد، و أ.تركي بن عبدالله التّركي، و د.حازم بن عبدالرّحمن البسّام، و د.فهد بن محمّد الخويطر، و أ.محمّد بن عبدالله الحميد، والله يكتب أجرهم، ويجعل عملهم محمودًا خالصًا، ومن العلم الذي ينتفع به.
وصف الباحثون كتاب المدارج بأنّه كالماء للسّائر بيد أنّه يروي ظمأ الرّوح، وينير الطّريق، حتى يخضع القلب لمولاه؛ ولم ينل المدارج هده المكانة إلّا باغترافه من معين القرآن والسنّة، ثمّ ما قذف الله في قلب ابن القيم من إيمان، ونور، وفهم، ومعايشة فيما نحسب لهذه المنازل حتى أدرك كنهها، وأبحر في محيطها بمعرفة وحسن رياضة.
ويعدّ كتاب المدارج واسطة عقد كتب ابن القيم في الرّقائق وأعمال القلوب؛ حيث فتح الله عليه فتوحًا صيرته علامة فارقة، ولذا قصر الباحثون تقريبهم على أصل الموضوع ومقصده الأساسي في أعمال القلوب، ومنازل الارتقاء في سلّم العبوديّة، وتجاسروا على حذف ما سوى ذلك، وهي جسارة راشدة موفقة، وفنّ الحذف شجاعة لا يقدم عليها إلّا خبير بصير.
كما حذف الباحثون أيّ استطراد أو مناقشات بعيدة عن لبّ المنزلة، واكتفوا بما يغني من الأدلّة، واستغنوا عن غيرها كي لا يتضخم التّقريب فيغدوا تعجيزًا وتبعيدًا، واعتمد الفريق الخماسي المبارك على نسخة دار الصّميعي المحقّقة في رسائل دكتوراه بجامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلاميّة في الرّياض.
وطلبًا لمزيد من الضّبط والكمال، تقاسم الباحثون الكتاب، وراجع كلّ باحث منهم تقريب الآخر، ثمّ أعاد باحثان مراجعة التّقريب كاملًا بعد الفراغ منه، وأخيرًا قارن فريق العمل إنجازهم بأشهر تهذيبين للمدارج، وهما تهذيب العزّي، وتهذيب الشّامي، وبعد ذلك ضبط فريق مختص نصّ التّقريب النّهائي، وأحيل التّقريب إلى مجموعة من المحكمّين، ثمّ تدارس الباحثون ملحوظات التّحكيم، واجتهدوا في التّعامل معها، ولعلّهم استفرغوا الجهد، وبلغوا منزلة الإعذار.
ويتميز هذا التّقريب بأنّه عمل جماعي متقن، اعتمد على طبعة محقّقة حاصلة على تزكية علميّة، ولم يتصرف التّقريب في ترتيب الأصل وأبقاه كما هو، وكان ضابطه في حذف ما لا علاقة له بالمنازل مستمرًا من أوّل الكتاب لآخره ولم يتخلّف، وميّز الباحثون كلام الهروي عن كلام ابن القيم، ووضعوا أيّ إضافة ضروريّة للنّص المقرّب بين قوسين.
ويناسب التّقريب الخطباء، والمربين، والمثقفين، وسيتلوه بإشراف الباحثين أنفسهم كتاب مختصر يخاطب جيل الشّباب تحت عنوان الإكسير، ويمكن استلال نصوص جذّابة منه لوسائل التّواصل الاجتماعي، أو إفراغ مضمونه العذب في تطبيق للهواتف الذّكيّة، فضلًا عن إتاحة ترجمته إلى لغات أخرى، كي يستطعم غير العرب هذا العلم الشّهي بعيدًا عن الضّلالة والبدع.
وجدير بالبيوت ألّا تخلو من مكتبة، تضم كتبًا مختصرة ما بين تفسير، وحديث، وسيرة، وفقه، ولغة، وشعر، وأدب، وتاريخ، على ألّا تكون عسيرة على النّاشئة، وتفيد غيرهم، ومن التّوفيق أن يكون هذا السّفر النّفيس من محتويات المكتبة المنزليّة، فهو تربية، وإيمان، وتصوّف سلفي، وقراءته تسوق الرّوح، وتحلّق بها في ملكوت الله، بغية ترقيق القلب؛ عسى أن يظفر بسجدة مقبولة من الله، فتنزل معها الرّحمات والنّفحات، وتلكم لعمر الله دواء الدّاء، وحادية الأرواح، ومفتاح السّعادة، وطريق الهجرة نحو الله والدّار الآخرة.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الثّلاثاء 28 من شهرِ صفر عام 1440
06 من شهر نوفمبر عام 2018م
2 Comments
جزا الله خيرا .الاساتذة الخمس الذي قاموا باعداد كتاب المنجز لتقريب كتاب مدارج السالكين للامام ابن القيم الجوزية رحمه الله . كتاب قيم و نافع ومفيد وجامع يصلح لكل القراء لفهمه . جزاهم الله خيرا وجعلها في ميزان حسناتهم . اكتبوا الله يوفقكم فنحن نقرا ماتكتبون ونستفاد منه