سوار فوق التّاج والعرش!
توفي المشير عبدالرّحمن سوار الذّهب في مدينة الرّياض يوم الخميس التّاسع من شهر صفر عام 1440، ونقل جثمانه إلى المدينة النّبويّة تنفيذًا لوصيّته، وصلي عليه عقب صلاة الجمعة في مسجد الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، ثمّ أودع جسده في ثرى البقيع بعد عمر تجاوز ثمانين عامًا.
والمعروف لديّ من دراسته أنّه تلقى تعليمه العسكري في السّودان، ودرس برامج خارجيّة في أمريكا وبريطانيا وغيرهما، لكنّي أجزم بأمرين، أوّلهما أنّ الرّجل تعرّض لتربية بيتيّة أو مسجديّة عميقة، صنعت منه هذا الإنسان الفريد، والثّاني أنّ الله أنجاه من العمالة لأمريكا أو بريطانيا إبّان مكوثه فيهما، وهو الوحل الذي انغمس فيه ساسة وعسكريون آخرون، وياله من مستنقع آسن في الدّنيا، وذي تبعات مخزية في الآخرة.
وفي مرحلة اضطراب حلّ بالسّودان العزيز عام 1985م، وجد المشير نفسه مضطرًا لتصدّر المشهد، وقيادة الانقلاب كي لا تنزلق بلاده إلى منعطف من الفوضى والدّمار والدّماء، وكان حينها رئيسًا للأركان، ووزيرًا للدّفاع، فأزاح النّميري، ووعد بألّا يبقى أزيد من سنة في الحكم، وصنيعه هذا بعيد عن الغدر؛ لأنّه قاد انقلابًا قائمًا ولا بدّ، وجعل مصلحة بلاده فوق كلّ اعتبار، مع أنّ النّظام نفاه ظلمًا على موقف بطولة سابق له.
وصدق الرّجل وعده، وأحال أمر الزّعامة للأمّة كما هو الأصل الشّرعي، وسلّم الأمانة لمن اختارته الجموع طواعيّة، ولم يلتفت لدعوات البقاء سواء جاءت من مخلص أو من متملّق، ولأنّه كان حسن القصد تام الوفاء، وردته خلال سنته الوحيدة في الرّئاسة رسالة من جعفر النّميري تفيض تقديرًا له ولموقفه، وعادة المتعاقبين أن يلعن سابقهم لاحقهم، ويمحو الّلاحق حسنات السّابق، وهو مالم يقع من المشير الكبير.
وبعد أن هجر بريق المنصب وزهو الرّئاسة، انصرف بكلّيته للعمل الخيري بكافة فروعه: الدّعوي، والتّعليمي، والإغاثي، والتّنموي، والإصلاحي، ويمّم وجهه وجهوده نحو نفع المجتمعات المسلمة وجوارها، وهو أنموذج نفاخر به في عالمنا العربي والإسلامي، ومن الموافقات التي نتفاءل بها أنّه قضى ثلاثة وثلاثين عامًا في هذا الحقل الخصيب، وهو عمر أهل الجنة، جعلنا الله وإيّاه من أهل فردوسها الأعلى.
ومع أنّ السّوار الذّهبي ازوّر عن الإعلام والظّهور، وتحاشى كلّ فخامة وأبّهة، إلّا أنّ الله قذف له المحبة والقبول في قلوب عامّة النّاس وخواصّهم، وجاءته الجوائز منقادة تسعى إليه؛ حيث فاز بجائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام، ومُدح بقصيدة بائيّة وقلّما يمدح غير الزّعيم بحضرته! ووقف له مجلس الأمّة الكويتي إجلالًا، وفتحت له الصّالات الملكيّة في المطارات السّعوديّة دون أن يطلب، وخطبت وداده المجالس والهيئات والجمعيّات، فالله يجعل ذلك من عاجل بشراه، ولسان صدق له في الآخرين، إلى أن يضع قدمه في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وتصف سيرته العدل، وحسن تقدير المصالح والمفاسد، ورعاية المصلحة العليا وتقديمها، ويُروى أنّه أوّل من رفع الآذان في الثّكنات العسكريّة في بلاده، وكان قلبه معلّقًا بالصّلاة والمساجد، ويثني كلّ من عرف المشير على سماحته، وتواضعه، ولين جانبه، وتغافله عن حقوقه المعنويّة والماديّة، وعلى حسن عشرته، وصفاء سريرته، وكمال أخلاقه، واعتدال طباعه، ولا غرو أن يكون كذلك وقد رفس الدّنيا وهي عليه مقبلة ولأمثاله مغرية، ونحسبه قد وهب نفسه وعمره لله، وتحمّل أيّ معاناة يجدها في هذا السّبيل.
وكم أتمنى أن تنتشر سيرة رجل الدّولة العظيم المشير عبدالرّحمن سوار الذّهب، وليت أنّ أمين مجلس جامعة العرب، وأمين منظمّة تعاون المسلمين، يحدّث كلّ واحد منهما ساسة العرب والمسلمين؛ حين يلتئم شملهم عن رجل مثلهم، وعاش بينهم، وجلس على ذات الكرسي، بيد أنّه استعلى على العرش والتّاج؛ ليصبح سوارًا من الذّهب الخالص الثّمين، يحبه الغالبيّة، ويدعون له، ويسطّر اسمه مع صلحاء أمراء أمة محمّد صلّى الله عليه وسلم، حيث حجز لنفسه موضعًا كريمًا في سجل الخالدين.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
الجمعة 10 من شهرِ صفر عام 1440
19 من شهر أكتوبر عام 2018م
3 Comments
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مقال السوار
مقال جميل
ويعلن أن مقالاتك حفظك الله، ترقى وترتقي، مع أنك تكتب مستقلًا بعيدًا عن دوائر التحرير وكتب أسلوب المؤسسات الإعلامية الكبرى ..
جاء مقالك هذا منطلقًا من مقدمة محسوسة، تجمع بين الجاذبية ووضوح الموضوع الذي سيتطرقه المقال.
ثم انساب المقال بأدوات منها قصر المقال الكلي، وقصر الفقرات وتقارب حجمها، والاعتماد في التنقل على الحركة الزمانية في جل المقال، ثم تلخيص الهدف من المقال وتثبيته من خلال مقترح مسرحي محسوس.
وفقك الله دائمًا أيها الغالي
وزاد غلاك بين أهل السماء والأرض