نقولا زيادة ومئة عام من أيّامي!
قرأت كثيرًا من كتب السّير الذّاتيّة، لكنّ هذه السّيرة كانت من أميزها وأغزرها فائدة ومادّة، ولم يكن التّعب في سبيل تحصيلها عبثًا، وليت من يبدأ مشروعًا لكتابة سيرته أن يحرص على رفدها بما يطيل عمرها، ويعظم أثرها، ويجعل حروفها وكلماتها نابضة بالحياة، مليئة بالمعاني الشّريفة المبثوثة ضمنها.
عنوان الكتاب: أيّامي، تأليف: د.نقولا زيادة، ويتكوّن من جزءين كبيرين، صدرا عن دار هزار في لندن بالتّعاون مع الأهليّة للنّشر في بيروت، ويقع الجزء الأوّل في (307) صفحات، ويضم ثلاثة أقسام فيها ثلاثة عشر فصلًا تبدأ من ميلاده في دمشق، وتنتهي إلى ابتعاثه لأوروبا بين عامي 1935-1939م.
وعدد صفحات الجزء الثّاني (303) صفحات، ويحوي أربعة أقسام فيها سبعة عشر فصلًا، ويكمل مدة دراسته الأولى في أوروبا مستمرًا إلى عام 1992م تقريبًا. ويهدي د.نقولا عمله الضّخم لأحفاده، وكان ينوي إصدار عمل آخر إذا أكمل قرنًا من الزّمان؛ بيد أنّه مات عام 2006م قبل تمام قرنه بسنة واحدة فقط، وللمؤلف كتب تاريخيّة وفكريّة كثيرة، وهو باحث جاد، منصف للإسلام ونبيه وتاريخه، مفتون بلغة العرب وأرضهم وأمجادهم.
يرى أبو رائد أنّ أيّ موقف يمكن أن يكون مدرسة للإنسان إذا أعمل فيه التّأمل، وينصح بالتّفكير خلال المآزق خلافًا للتّذمر الذي لا ينفع، ويحرص على ملاحظة الآخرين للاعتبار وليس لمجرّد الرّقابة، ويصف نفسه بأنّه كتلة من التّأملات، ويؤكد على ضرورة فاعليّة الواحد في جماعته وبيئته المحيطة، ويصر على أهميّة امتلاك القدرة على التّكيّف؛ فأحوال الدّنيا ليست تبعًا لرغباتنا.
ومن قواعده في الحياة أن ينشغل بمنافسة نفسه، وتحقيق أهدافها، كي لا يقع أسيرًا للمقارنة والغيرة والحسد، ويجزم أنّ التّوقف مضر وعلاجه السّير للأمام ولو لبضع خطوات، وأفضل طريق للإنجاز هو العمل بنظام ودأب. ويظهر من سيرته أنّه كان يرى الجمال ولو في شوكة، ويتعلّم من أيّ حدث عابر، ويمضي لهدفه معرضًا عن بنيّات الطّريق، ويتجنّب جعل ما يفكر به أو ما يشعر به على لسانه دومًا.
كما يعلي المؤلّف من شأن القراءة، والخطابة، والكتابة، والأصدقاء؛ حيث ساهموا جميعًا في ارتقاء تفكيره، وتعميقه، وتنظيمه، وفتحت القراءة الشّخصيّة أمامه آفاقًا واسعة، ونفعته أكثر من التّعليم النّظامي، ومن خبرته يرى أنّ القراءة للآخرين فنٌّ خاص، وأتصوّر أنّه جانب غير مخدوم في عالمنا كما يستحق. وأثنى الكاتب على تجربته في جامعات أوروبا، وحرص الأساتذة على الطّالب وتوقير العلم، حيث تدرب على البحث، والتّفكير، والكتابة، وحرية الرّأي.
ويوصي د.زيادة المؤرخ بفهم التّاريخ من خلال علوم الجغرافيا، والآثار، والأدب، ويؤكد على العلاقة الوثيقة بين الّلغة والفكر، ويشير إلى الفرق بين المعلومة والوعي؛ وكم لاحظنا من مخازن معلومات بشريّة يفقدون القدرة على تفسيرها، أو تحليلها، ولأجل ذلك فتح نقولا خزانة معلوماته وأفكاره للهواء؛ وجعلها عرضة للتّفاعل مع محيطها.
أما في مجال التّأليف والتّدريس فاعترف بأنّه تعلّم من طلّابه بقدر ما علّمهم، وكان يقرأ النّقد الموجه لما يكتبه فيستفيد من البنّاء ولا يلتفت للهباء، وينصح الشّغوف بالإنجاز أن يمتّن الصّلة مع مكان العمل حتى يشعر بالاستقرار المعين على الأداء المتقن. وأمّا في الحياة فلم يخض غمار السّياسة وتحاشاها مع مشاركته في ثلاث مظاهرات فقط، وقرّر ألّا يكفل أحدًا ماليًا، وصرم عمره بين المكتبات ومقابلات أعلام المجتمع العربي والعالمي من مجاهدين، وعلماء، وكتّاب، وزعماء، ومن بدائع الكتاب قوله لا أزال وأنا في الخامسة والثّمانين أنمو دون أن يدركني الملل من الحياة، أو يصيبها الملل منّي.
وتمتاز سيرة نقولا زيادة بأنّها تاريخ، وجغرافيا، لعالمنا العربي، ولأحداث كبرى مثل الحربين العالميتين، وفيها نتف من سير أعلام كثر، وتفاصيل عن جميع البلاد العربيّة، مع تركيز على بلاده فلسطين وسوريّة الكبرى، وتحوي رواية عربيّة أمينة لمكائد الاحتلال الإنجليزي وخزاياه، وجرائم الصّهيونيّة حركة ودولة، ولم ينس فضح العدوان الفرنسي، والإيطالي، وخداع الّلجان الدّولية لعالمنا.
ومع أنّه افتتن بالمغرب العربي الأنيس، وألّف عنه كتبًا كثيرة، إلّا أنّه لم يقف على تخوم العرب، بل استمر مع حركة الفتح الإسلامي، فزار الهند الواسعة، وسمرقند، وتركيا، وإيران حيث انبهر بشيراز مدينة الأولياء والشّعراء والحسن، وفضّل زيارة بعض هذه البلاد على المحاضرة بهارفرد، وكان له فيها حضور مؤثر حفظ الكتاب طرفًا منه.
وفي سيرة المؤرخ الأمين شهادة صدق على وضع المرأة في فلسطين؛ حيث كانت ملتزمة بغطاء الوجه أو بالحجاب والّلباس المحتشم على الأقل، مع البعد عن الاختلاط، ثمّ روى بدايات السّفور، ومشاركة المرأة مع الرّجال لدرجة المزاحمة، والغريب أنّه خلال المحافظة والانفلات، لم تكن للمرأة في فلسطين قضيّة مثارة أسوة بغيرها من بلاد العرب.
كذلك من أحاديث النّساء في سيرة نقولا أنّ نساء نابلس يغطين وجوههنّ عن الرّجال في عشرينيات القرن العشرين، وبعد عشرين عامًا زارها، فدهش من انتشار السّفور والاختلاط، وحين زار مدرسة في نابلس بعد موجة التّغيير دعته المديرة لشرب شاي مع المعلمات إلّا واحدة اعتذرت!
واعترض أهالي ترشيحا في فلسطين على اختياره محكمّاً في مسابقة شعريّة لفتيات أكبرهن في الصّف الخامس؛ لأنّه شاب ووسيم، مع أنّ الحجاب لم يضرب عليهن بعد لصغرهنّ كما يقول، وبعد الانقلاب الاجتماعي وهجر العوائد الحميدة، رأى لبس الطّالبات الكبيرات للقصير في حصص الرّياضة؛ مع أنّ لباس ما دون الرّكبة للرّجال كان سلوكًا مرفوضًا!
وحين أرادوا تمثيل مسرحيّة عام 1925 م، تورطوا بوجود فتاة ضمن النّص، ولن ترضى فتاة أو أسرتها بالتّمثيل -مسلمة كانت أو نصرانية أو بهائية- فالعربي أبي غيور، والعربيّة شموس كريمة، ولجماله اقترحوا أن يقوم نقولا بهذا الدّور فرفض، بينما قبل آخر التّمثيل لسخف عقله! ومن الّلافت تخصيص أيّام نسائية حصريّة لمشاهدة العروض بعيدًا عن الرّجال.
ووصف فتيات فكّر بالزّواج منهنّ، وأتجاوز عن تجسيده الدّقيق، إلى سبب طريف أبعده عن إحداهن؛ فرارًا من أن تكون أمّها حماته! ويبدو أنّ (التّبولة) للفتيات عام 1943م مثل (ورق العنب) حاليًا، ولذا يعترف نقولا بأنّه في زواجه من مرغريت مدين للتّبولة!
وفي تضاعيف أيّام نقولا عناء وفقر ويتم وكدح ومسؤوليات مبكرة، وتبرز أفضال أمه وزوجه عليه، حيث وصفهما بمنارتي تربية ومؤازرة له، وبما أنّنا حول المرأة فلا بأس من الإشارة إلى تفصيله في حكاية الملك إداورد الثّامن الذي وقع في حب امرأة أجنبيّة ومطلّقة مرّتين، وكانت حديث الشّارع والصّحف، ووجد نقولا نفسه حكمًا بين العجوز التي يسكن معها ومع زوجها لخلافهما المستمر حول هذه القضيّة التي حسمها إدوارد بتفضيل الحب على العرش الذي ذهب لأخيه جورج السّادس.
أيضًا روى نقولا طرفًا من شكوكه والأسئلة التي تقاطرت عليه حتى وصل إلى الإيمان العام فوجد الرّاحة، ومن الطّريف أن أجداده من جهة الأبوين يحملان نفس الاسمين وهما عبدالله ووردة، وتحدّث عن وصول الخمور بأنواعها لقرى فلسطين قبل الكهرباء والخدمات الأساسيّة الأخرى، ووصف شوارب المعلّمين الكثيفة؛ حيث كان حلق الشّوارب غير معروف، وإذا ضحك المعلّم أو غضب تراقصت شواربه مع عضلات وجهه! وأشار إلى أنّ رهبان الكنائس كانوا من غير العرب غالبًا، وهذا شبيه بأكثر مراجع الشّيعة!
ومن وقائع الكتاب الحراك الثّقافي العربي في فلسطين، والمكتبات والنّدوات والجمعيّات، وأوّل معرض للكتاب أقيم عام 1946م، ومن المؤلم أنّ اليهود سرقوا فلسطين ومكتبته بمحتوياتها كما فعلوا مع مكتبة عجاج نويهض وغيره. ويجزم المؤلّف أنّ ابنه البكر رائد هو أوّل عربي يحمل هذا الاسم حيث ولد عام 1946م، ويحرص زيادة على ممارسة رياضة المشي بانتظام دون انقطاع، وبجلد بلا فتور.
وله موقف من المؤتمرات ملّخصه أنّ توصياتها للاستهلاك فقط، وأمّا رأيه في اللّجان فيختصره بأنّ أفضل لجنة وأقدرها على الإنتاج هي المكونة من شخص واحد فقط! وحين أراد الإنجليز إنجاز حفل تتويج الملك فيصل الأوّل على العراق بسرعة، صنعوا عرشًا له من صناديق كاز تابعة للشّركة الأنجلو فارسيّة، وبعد أن رفع العرش لينقل من حديقة قصر الزّهور لقاعته ظهر شعار الشّركة، فعلّق صحفي أمريكي: عرش فيصل يرتكز على شركة أنجلو فارسيّة!
والكتاب كما أسلفت غزير الفوائد، وهو نادر مع الأسف، ولم أجد له نسخة إلكترونيّة حسب بحثي القديم، وقد تعود ندرته لحجمه، ورحيل كاتبه، ومحتواه، ويا ليت أن تتولّى مؤسّسة ثقافيّة عربيّة إعادة إصداره. وسبق أن رأيت كتابًا عن رحلات د.زيادة عنوانه: حول العالم في (76) عامًا: رحلات مثقف شامي في آسيا وأوروبا والشّمال الأفريقي (1916-1992) لنوري الجرّاح، ويبدو لي أنّه يتقاطع مع سيرة نقولا كثيرًا.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الإثنين 06 من شهرِ صفر عام 1440
15 من شهر أكتوبر عام 2018م
6 Comments
جزاك الله خيرا مقال قيم ومفيد جدير بالقراءة والاستفادة منه .
من أين يمكن الحصول على السيرة الذاتية؟
كان أبي، رحمه الله، يجمع مقالات زيادة في جريدة الحياة في الرياض عام ٢٠٠٣. أرغب كثيراً بأن أقرأ الآن سيرته الذاتية.
أهلا بك. هناك موقع فيه جل كتبه ومقالاته إلا هذا. تواصلي معي على البريد لأدلك على كيفية شراء السيرة:
ahmadalassaf@gmail.com
وحياكم الله
اهلا لارا اذا لسه عندك القصاصات بدي اياها وبحب جريدة الحياة ونقولا