التّجربة حين تعلّمنا!
التّجارب عقل ثان وثالث، وهي أحد أسباب الاحتفاء بعلم التّاريخ، والسّير الذّاتيّة، وأحاديث المعمّرين، إذ يغلب على النّاس سهولة الإخبار عن تجاربهم أو بعضها، فنحن لا نعلم عن مبلغ علم إنسان، أو مقدار ثروته، أو مدى براعته، أو مجريات حياته، ومع ذلك يخبرنا عن مسيرته في كثير من نجاحاته وعثراته، وهذا هو الّلباب المفيد لا غيره من الفضول.
وقبل أزيد من خمس سنوات، كتبت عددًا من التّدوينات المختصرة، وهي حصيلة تأمل، وقراءة، واستماع، ونقاش، وجعلتها تحت وسم بعنوان التّجربة تعلّمنا، ثمّ رأيت أخيرًا جمعها في مقالة واحدة، فقاسمها المشترك أنّها منطلقة من تجارب بشريّة، ومن المناسب ضمّها بدلًا من بقائها متناثرة في الشّتات.
ولعلّ هذه الكلمات أن تحكي ما يتردّد في صدور كثير من بني الإنسان، فحين نحاول استخلاص سرّ خلود إبداعات أفذاذ الحضارات وأساتذة الإنسانيّة، تتجلّى لنا معاني التّجديد مع الأصالة، والمتانة مع التّأثير، لكنّ التّجربة تعلّمنا أنّ هؤلاء الأعلام عبّروا بعمق وصدق عمّا يجيش في أذهان العاجزين عن التّعبير من معاصريهم ومن بعدهم، ومن طبيعة البشر أن يحملوا أيّ قول يمثّلهم، فيهبون له الحياة، والخلود.
والتّجربة تثبت أنّ تأجير العقول مثلبة ومزلّة أقدام، ولذلك أخطأ أكثر من حاولوا فهم دين الله بالقراءة في كتب المستشرقين والمخالفين، وتركوا النّهل المباشر من المصادر الشّرعيّة العذبة، وقعوا في مزالق صنعها الآخرون، لأنّ خير سبيل لتقييم الأشخاص، والكتب، والمشاريع، والأحداث، يتلّخص في بحث القادر شخصيّاً دون الإتّكاء على حكم مسبق، وأقوال متداولة، أو على الأقل فحص آراء الآخرين قبل تبنّيها.
وفي قول النّبي صّلى الله عليه وسلّم: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” قاعدة حياتيّة عظيمة، والتّجربة تؤكد أنّها تقرّب القلوب المتنافرة، وتعين على الإنصاف بين الخصوم، وتقضي على كثير من المشكلات والخلافات قبل وقوعها، وقليل فاعلها، وربّما ينشدها المرء من غيره، ولا يلزم نفسه بها نحو الآخرين، هذا إن لم يضنّ بها عليهم ضنانة بخيل شحيح حريص.
وحتى يصفو الإنسان داخليّاً، عليه أن يقول ما يظنّه صوابًا، ويفعل ما يراه صحيحًا، ويلبس ما يعتبره ملائمًا، ويطعم ما يعتقده نافعًا، والمهم أن يرضي العبد ربّه ومولاه، ويعصي شيطانه وهواه، ويغفل عن مراقبة النّاس له؛ فلن يرضيهم شيء، ولن تعجبهم حال، والتّجربة تؤكّد أنّ السّعادة تنبثق من أعماق الإنسان، ومن تصالحه مع نفسه، وأمّا الخارج فقشور تطير بسرعة، والحصيف لا يكبّل حياته بأذواق الآخرين.
والتّجربة تعلّمنا أنّ أجواء الثّقة والتّعبير الصّادق عن الآراء، تشيع الطّمأنينة والرّضا، وتنتج مجتمعًا آمنًا، قويًا، غير منافق، ولا متناقض؛ فحين يقول المرء ما يعتقده يرتاح ويريح من يتعامل معه، ويساعد ذلك على اكتشاف الدّاء الغامض الذي لا يراه الكافة، وعلى علاجه بيسر وسهولة لأنّه لم يستفحل، وحقيق بالمكتشف الإكرام لا التّشنيع، وأمّا حين يصبح الدّاء باديًا للعيان، فما أصعب مداواة مرض شاع وانتشر، ولا نبلغ هذه المرحلة الخطيرة إلّا بسبب السّكوت أو التّهامس.
وإنّ تتابع الانتكاسات باختلافها على منظومة أو مؤسّسة، يوجب البحث الحثيث عن سبل الإصلاح، ورجالات المرحلة، وتقول التّجربة إنّه لا مناص من المراجعة، ولا بأس من التّراجع بطريقة غير مباشرة من خلال فتح مسارات ومخارج، فالتّجارب تدين البقاء في منطقة الرّاحة دون حراك، فلا بدّ من تقديم أو تأخير بحكمة وبعد نظر. ومن خبر التّجربة، أنّ إضافة بهارات كثيرة على الطّبخ دون حاجة، قد يكون ستارًا يخفي تدنّي مستوى الطّباخ، أو عيوب مكوّنات الطّعام، وهي قاعدة تكاد أن تكون عامّة في كلّ فنّ وحرفة، ونراها في شعارات ذات تعابير بحجم الجبال، مع إنجاز قليل إن وجد.
ونبدو أحيانًا مفتونين بعملية “التّكبيش”، والبحث عن كبش فداء نحيل عليه الأخطاء والشّرور، ليسلم رعاة الأكباش من السّهام والنّصال، ولا طائل من ذلك، فالقضاء على آفة المخدّرات-مثلًا- يبدأ من المستخدم حتى المستفيد الأول، أو العكس، أمّا الاكتفاء ببعض الأطراف فيتيح للباقين إعادة ترتيب الأوراق، والبحث عن مواضع جديدة للانتشار، والتّجربة تعلمنا أنّ معاقبة الحلقة الأخيرة أو الأضعف في سلسلة الإجرام والفساد، أقلّ نفعًا من تحطيم رأس السّلسلة وتهشيم أقواها!
والغالبية لا يعترفون بخطئهم، ويحكون الوقائع حسب شعورهم أو بما يعتقدونه تبرئة لساحتهم ولو أخفوا جانبًا من الحقيقة، وخير ما يكون مع الخصومة -إذا وقعت- أن نبقي للصّلح موضعًا أو أكثر، ولا نغلق دونه جميع الأبواب؛ فالصّلح دومًا خير، ومن المحزن أن يكثر الحديث عن القيم في مقابل ضمور حضورها على أرض الواقع، حتى صار لها وحشة، وإنّما زينة القول والعلم في العمل، وهذا أمر تصدّقه التّجارب.
والانتظار جزء من الحياة ومع ذلك فهو ثقيل مرير إلّا على أصحاب المشاريع والرؤى المستقبليّة، وما أحرانا بالصّبر وطول النّفس، وانتظار نضوج الثّمرة ولو مضى وقت ليس بالقصير، ومن التّجربة نلاحظ مصابرة أبناء الأقليّات، وجلَدهم، وحرصهم على دراسة تخصّصات نادرة أو حرجة؛ لأنّ المسألة لديهم أكبر من مجرّد لقمة عيش، وظفر بوظيفة، بل مزاحمة على الأماكن، وإثبات للوجود كمحطّة على طريق التّمكين وتوابعه!
ومن البلاء تأخير إبراز العمل بعد نضوجه بغية مزيد استقصاء أو كمال، وبسببه يحرم طلبة العلم والثّقافة والأدب من خير كثير، والتّجربة تصيح بنا محذّرة من طلب الكمال، وتدعو إلى خوض المحاولة بعد الاستعداد لها، ومن التّطبيق نتعلّم ونزداد حذقًا ومهارة، ونفيد من أعظم ناقد لعملنا، والتّجربة تشير إلى ذواتنا على أنّها أفضل النّقاد، وأصدقهم، خاصّة بعد الابتعاد عن العمل الإبداعي فترة من الزّمن.
وفي جلّ المجتمعات يوجد أناس أتقياء في الأعمال الفرديّة-أو هكذا يبدون- لكنّهم آثمون مع الآخرين والمجتمع، فلا كثّرهم الله وكفانا شرّهم وخداعهم، لأنّ خشوعهم لهم، وجرائرهم علينا، فخطلهم أنكى، وخطرهم أبقى، والتّجربة تعلّمنا أنّ الدّين يهذّب شراسة الطّبع، وإذا لم يستطع تغيير الجبلّة، فلا يترك صاحبه خاليًا من الصّدق والأمانة والإنصاف، ومن فقدها فهو أهل للرّيب. والتّجربة تعلّمنا أنّه بوسع الرّموز أن يكونوا أئمّة هداية، كما يمكنهم أن يصبحوا أئمّة ضلالة، وعليهم الاختيار بين أحد نموذجين: غلام الأخدود أو ابن باعوراء.
وتخبرنا التّجربة أنّ نقاشات النّاس خلال المجالس والّلقاءات سواء في مضمونها، أو طرائقها، تكشف عن مستوى ثقافة المجتمع، وتوافقه، وتقبله للآراء، وغالبًا يثني البعض على شيء بما لا يعتقدونه كلّه فيه، وإنّما يجاملون أو يخافون، وفي المقابل ينتقدون الشّيء بما ليس فيه، وإنّما هو الحسد وطلب المعايب.
ونعلم يقينًا من تجارب الأمم أنّ التّناقض من جند الله، يفضح به المرتزقة وركّاب الأمواج، ونفهم من التّجارب أنّ لغة المناسبات ما لم تنبع من قلب عامر باعتقادها، تفقد حرارة الصّدق، ويغيب عنها برهان العلم، ولا تعدو سوى كلمات، وهل تنفع الكلمات الشّوهاء أو الميّتة التي لا تبني ولا حتى قصرًا من وهم؟!
وتكشف تجربة المناصب عن معدن الإنسان؛ فيستبين صغار بعضهم وهوانه، حين يزهو بعَرض قد ينتزع منه في أيّ لحظة، ويظهر الجوهر النّفيس لمن يتسامى، وتكون مواهبه ومعارفه وقيمه أكبر من المنصب والأسماء الفخمة، والتّجارب تفضح الأوّل، وتخبرنا عمّا يصيبه من كدر وكآبة حين يُقال، وتعلي التّجربة من قدر الآخر الذي يترك منصبه دون أن يفقد توازنه، أو ينزوي هاجرًا أو مهجورًا.
ولو أردنا أن نسترسل مع التّجارب وإيحاءاتها لما توّقف القلم، لكثرتها، مع ما فيها من توافق، وتعارض، وتنوّع، وغير ذلك، ومن الحصافة أن يهتبل الشّباب يفاعة سنّهم في حضور مجالس أهل الخبرة، وأصحاب التّجربة، وغشيان نواديهم، وسؤالهم؛ كي يقبسوا منهم ما يعينهم على المضي في طريقهم دونما عثار أو خلل، وما أسعد الشبّان بكبارهم حين يمنحونهم صفوة الوقت، ويصارحونهم بخلاصات الحياة، ويالها من فرصة سانحة قد يهملها من يحتاجها؛ ثمّ يأسف عليها بعد حين.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
ahmalassaf@
الإثنين 14 من شهرِ الله المحرّم عام 1440
24 من شهر سبتمبر عام 2018م
One Comment
بسم الله الرمن الرحيم
جزاك الله خيرا على مقالتك المتميزة . وجعل لك فيها ثوابا كبيرا في كل كلمة كتبتها فيه . رحم الله والديك وابائهم. وجعلها في ميزان حسناتك وحسناتهم . وفقك الله لما يحب ويرضى