مواسم ومجتمع

عفو في ليلة قصاص!

عفو في ليلة قصاص!

من مقاصد الشّريعة بعد حفظ الدّين حفظ النّفس، ولذلك حرّم الإسلام الاعتداء عليها وإزهاقها أو إعطابها، فالنّفس البشريّة معصومة وليست مملوكة حتى لصاحبها، ولا يجوز قتلها أو عقابها إلّا بموجب نص شرعي محكم، ولم يفتح الشّارع الحكيم الباب لقتل النّفس المعصومة إلّا في ثلاثة أحوال فقط.

وكم يجلب الغضب، والتّحدي، والمماحكات، من بلايا على أهلها، حتى أصاب بعضهم من جرّاء حنقه دمًا حرامًا، أو اجترح بسبب المنافسة آثامًا عظامًا، والله يعصمنا من الزّلل، والهوى، ونزغات الشّياطين، والحصيف من نأى عن موارد قد تودي به من حيث لم يحتسب، وتباعد عن مواطن الإثم.

وفي مجلس كريم، خلال موسم ميمون، سمعت قصة معبّرة، ورأيت تدوينها ونقلها لعلّها أن تكون مفيدة لمن قرأها أو سمعها، فالحكايات ليست للتسّلية فقط، وإن كانت السّلوى مطلبًا بيد أنه قلّما يستقل بذاته، ولأجل هذا أورد القرآن العزيز عددًا من القصص، وأخبر النّبي الكريم عليه الصّلاة والسّلام صحابته عن حوادث ووقائع لم يعاصروها.

يعود أصل هذه القصّة إلى أنّ مراهقين تعاركا؛ وحين غلت الدّماء في العروق، وغاب العقل من سورة الغضب، وأصاب العمه البصائر، قتل أحدهما الآخر، وكان القتيل ابن رجل ثري سري، والقاتل من أسرة معروفة، وغدت الواقعة مشتهرة تتداولها المجالس، وتتناقلها الألسن، وما من شيء يخفى وإن اجتهد أهله في كتمانه.

وبعد إنهاء الإجراءات الرّسميّة، عُرضت القضيّة على أنظار لجنة قضائيّة ثلاثيّة، فالقتل ليس أمرًا هيّنًا، ولعظمته، وخشية من الاجتهاد الخاطئ فيه، لا ينفذ إلّا بعد فحص الحكم من قبل ثلاثة عشر قاضيًا في مستويات مختلفة، ولابدّ من موافقة غالبيتهم العظمى على قرار القتل، واقتناعهم به.

وعند الّلجنة القضائيّة الأولى جاء والد القتيل، فتلّطف معه القاضي الأول بالعزاء، بيد أنّ الأب المكلوم شرع في لوم القاضي على تأخير التّعزية، فقال له القاضي: ليس بيننا معرفة، ولا حقّ لك علي كي أعزيك! ثمّ قال له القاضي الثّاني: أين دعواك محرّرة؟ فلم يرق السّؤال للوالد وأجاب: دعواي معروفة وطلبي معروف! فقال له رئيس الّلجنة: سنعيد القضيّة إلى أن تحرر الدّعوى كالمتبع!

فلم يتدخل القاضي الثّالث في النّقاش وهذا من حكمته وبعد نظره كما سوف يستبين من مجريات الأحداث، علمًا أنّ والد القتيل كان يصلّي مع القاضي الثّالث ويستمع إلى خطبته الأسبوعيّة كلّ جمعة، وبينهما معرفة بصريّة، فأراد القاضي أن يبقي للرّجل طريقًا لعلّه أن يقود إلى خير.

وفي ذات يوم الجلوس مع الّلجنة القضائيّة، صلّى الأب المفجوع مع القاضي الثّالث في مسجده صلاة العشاء، وقال له والحزن يغمره: إنّي منذ قتل ابني لفي همّ كبير، لا يكاد ليلي أن ينجلي، ولا يمضي نهاري بسهولة، ولم يعد لي من شأن إلّا دم ابني الذي أعماني عن أيّ شيء آخر! فأخبره القاضي عن الإجراء النّظامي، وكيفيّة تحرير الدّعوى، ففعل الرّجل المطلوب منه مباشرة، وبعد سلسلة من التّقاضي صدر حكم شرعي مصدّق بقتل الجاني قصاصًا.

ومنذ وقوع حادثة القتل، وخلال مدّة التقاضي، وفي فترة انتظار التّنفيذ، تكاثرت الشّفاعات لأجل العفو، وتقاطرت الوفود محاولة إقناع ولي الدم، وكان يقابلها بالرّفض أولًا، ثمّ أصبح يغلق بابه دون الزّوار، ولا يستقبل أحدًا أتاه لأجل هذا الموضوع؛ حتى أنّه لم يفتح الباب لمشايخ مشهورين، وأمراء كبار، ووجهاء وأعيان، وظلّ موصدًا الأبواب إلّا أمام القاضي الثّالث، الذي كان يهتبل الفرص؛ فيحدّثه بين فينة وأخرى عن فضيلة العفو، وأنّ القتل وقع هفوة لا عن قصد وتحيّن، وأخذ يلقي رقيق المواعظ ولطيفها على قلب الرّجل الذي كان مقفلًا إلّا عن القاضي وعذب أحاديثه.

كما حاولت جموع الأهالي، ولجان الصّلح، وإمارة المنطقة، وفضلاء أهلها، وذووا الجاني، لكنّ الرّجل أحبط أيّ محاولة، ولم يقبل الدّية ولو بلغت عشرات الملايين، وكانت صورة فلذة كبده تتراءى أمام عينيه، وكأنّها تطالبه بشيء، ويقع في نفسه أنّ القصاص سيشفي غليله، ويطفئ نارًا مشتعلة الأوار في صدره، ويرضي بها بنيّه حين يلقاه عند مولاه، ولذلك أظهر الأب التصّلب الشّديد أمام أيّ أحد، ولم تلن قناته، أو يناقش أحدًا سوى القاضي الثّالث الذي أبقى للصّلة موضعًا عسى أن ينفذ منه إلى خير.

وفي ليلة التّنفيذ، وقبيل الواحدة بعد منتصف الّليل، رنّ هاتف القاضي، وكان المتصل هو والد القتيل، الذي قال للشّيخ: لم يعبر في حياتي ليلة أغلظ عليّ ولا أثقل من هذه الّليلة! يالها من ليلة تزهق في صباحها روح إنسان، ويالها من ساعات ظلمة يؤذن انبلاج فجرها بنهاية حياة شاب غير عريق بالإجرام، يا لها من لحظات عصيبة على بيوت وقلوب بريئة من الغلّ والكيد!

فتهلّلت أسارير القاضي وهو يسمع مؤشرات على نجاح جهوده بعد فضل الله، وتحقّق من هذه النّتيجة حين أكمل الرّجل بوحه: إنّ نجاة الجاني بيدي بعد أمر الله، وقد أُلقي في قلبي العفو عنه، وحُبّب إليّ ذلك، ولي شرطان أوّلهما أن يخرج القاتل من المنطقة حتى لا يفتك به أبنائي وإخواني، والثّاني أن تكون أنت معي لحظة إعلاني العفو، علمًا أنّه لا يعلم بقراري أحد سواك؛ ولن يعلم أحد إلّا في ساحة القصاص.

ثمّ هنّأه القاضي على قراره الشّجاع الكريم، ووعده بالخير العميم؛ فكلّ حسنة يفعلها القاتل المعفو عنه سيكون لولي الدّم مثلها. وفي الصّباح الباكر ذهبوا إلى الإمارة، وعقدت لجنة عليا اجتماعها الأخير مع ولي الدّم كي تحثّه على الصّفح، فتظاهر بالإصرار على موقفه، وحين ركب السّيارة الحكوميّة طلب أن يكون القاضي إلى جواره، ويالها من دقائق بطيئة حاسمة يحتاج المرء فيها إلى اطمئنان وثبات.

وحين وصلوا إلى السّاحة، وجدوها غاصّة بالخلق من مختلف الأعمار، فاخترقوا فرجة صنعتها لهم الأطواق الأمنيّة، ونزلوا بجوار قارئ البيان والسّياف، وشرع القارئ يتلو بيان وزارة الدّاخليّة، والسّياف يخطو بتؤدة كأسد هزبر أدركته الرّحمة على فريسته، والقاضي يقول في نفسه: متى يعلن أبو فلان عفوه قبل أن ينتهي البيان، ويهوي السّيف، ولا مجال للرّجوع حينها!

وفجأة، خطف ولي الدّم مكبّر الصّوت، فتسمّر السّياف في مكانه، وبلغت القلوب الحناجر، وأخطأ موظف بمخاطبة والد القتيل جهارًا طالبًا منه العفو، فترك الوالد مكبّر الصّوت، وعنّف الموظف المجتهد إلى أن جاء رجل أمن حكيم وأبعد هذا الموظف الذي عوقب على تصرفه لاحقًا، ثمّ رجع الوالد وأخرج من جيبه ورقة مكتوبة وبدأ يقرأها، والسّاحة صامتة مصغية يكاد أن يُسمع فيها دبيب النّملة وصوت الإبرة؛ وغدا كأنّه خطيب مصقع يهدر بين أتباعه المطرقين!

وفي كلمته المكتوبة سلفًا، أعلن العفو لوجه الله تعالى، وذكر شرطه بمغادرة الجاني للمنطقة، فخرّ القاضي ساجدًا لله شاكرًا، وسجد معه وكيل الإمارة، وحين رفعا رأسيهما هالهما منظر السّاحة التي لا يُرى فيها إلّا ساجد بجوار ساجد، ثمّ تبادل النّاس التّهنئة، وتوجهوا بالشّكر والدّعاء لولي الدّم، وأصبحت تلكم السّاعة لحظة فرح عام، ونُقل القاتل للسّيارة التي كانت تحمله للموت، كي تعود به للحياة من جديد.

ولربّما يكون لهذا الفتى المعفو عنه خبيئة من عمل، أو أوبة قلب صادقة مع إخبات وسلامة، أو دعوات خالصة في ظلمة السّجن، وهي التي كانت من أسباب هداية ولي الدّم للعفو؛ دون إغفال جهد القاضي الذي أبقى للصّلح موضعًا بفتح قناة تواصل مع والد القتيل، ولم يدركه اليأس من صدوده وشدّة تمسكه برأيه.

فما أحوجنا لتربية الأبناء على الأناة، وإشاعة خلق العفو والتّغاضي في المجتمع، وما أجمل العفو حين يكون من الأكابر للكبراء وغيرهم؛ فتعمّ السّكينة، وتزداد البهجة، والله يسبغ علينا الإيمان مع الأمن، والسّعادة مع الرّغد، ويعيذنا من الهوى، وإجلاب شياطين الإنس والجنّ؛ الذين لا يرتاح واحدهم دون أن ينغّص على عباد الله في أمر دينهم أو دنياهم، أو كليهما.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف -جدّة

ahmalassaf@

الخميس 12 من شهرِ ذي الحجّة الحرام عام 1439

23 من شهر أغسطس عام 2018م 

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)