إدارة وتربية

البِّر جاء بالقاضي!

البِّر جاء بالقاضي!

 من فوائد المجالس النّبيلة أن يخرج المرء منها بثمرة، وطرفة، وعجيبة، وغير ذلك من خيري الدّنيا والآخرة، وهذا ما كان في مجلس حضرته أخيرًا في عوالي مكة زادها الله شرفًا ومنعة، وبارك لأهل المجلس في أنفسهم، وآلهم، ومالهم، وأعمالهم، حيث سمعت فيه واقعة عجيبة من تدبير الله الحكيم الخبير.

وتبدأ هذه العجيبة من سفر رفقة إلى بلد مجاور، وحين قفلوا راجعين للمملكة أرادوا تجربة طريق جديد لم يسبق لهم سلوكه فيما مضى، وكان الأصدقاء الثّلاثة قد خرجوا من التّاسعة صباحًا في أجواء باردة دون فطور أو طعام، وقادهم الطّريق الجديد إلى متاهة لم يعرفوا كيفيّة الخلاص منها، ولم تكن تطبيقات الخرائط متاحة حينذاك.

فاتّصل أحدهم بصاحبه العارف بالمنطقة بيد أنّه لم يجب، وبعد ساعة أعاد هذا العارف الاتّصال، فأخبره رفيقه عمّا هم فيه؛ فسأله: أين أنتم؟ فأجاب: نحن في قرية اسمها كذا، وعند إشارتها الوحيدة، فقال الصّديق العارف: إذًا فعلى يمينكم مسجد! انتظروا عنده وسيأتيكم من يرشدكم.

وخلال دقائق جاء عند المسجد رجل عليه أمارات الصّلاح، وهشّ لهم وبشّ، واصطحبهم لمنزله، وأسقاهم حليبًا ساخنًا مخلوطًا مع الزّنجبيل والعسل، ثمّ أطعمهم عشاء من أطيب الشّواء، وحين تجاوز الرّجال الثّلاثة البرد والجوع، أخذوا في الحديث مع مضيفهم، وأخبره أحدهم عن أسمائهم وأعمالهم، وأنبأه بأنّ أحدهم هو القاضي في المنطقة الفلانية!

وما أن سمع المضيف اسم القاضي ومنطقته حتى هبّ واقفًا كحماسة جمهور سجّل لاعبهم هدفًا، وأخذ يردّد سبحان الله! سبحان الله! فلان القاضي في بيتي! فلان أتى إليّ وكنت سأذهب إليه! وهو أمامي الآن وأنا منذ ستّة أشهر أتهيأ للسّفر إليه! وبدهشة سألوه: ما حكايتك؟ فقال: أنا أعد العدّة، وأجهز أوراق ملف ضخم؛ كي أذهب لمقابلة القاضي في منطقته، وفي نهاية الأسبوع الماضي حصلت على تأشيرة زيارة للمملكة، وأزمعت السّفر إليها غدًا فجرًا!

وأكمل سرده قائلًا: في قريتنا عجوز سبعينية، ولها ابن بار يقوم بها وبشيخها، وقد ذهب لأداء العمرة، وفي محطّة بطريق العودة، حدثت له مشكلة أفقدته صوابه، ففاه بكلام بذيء سيء، أوقف على أثره، وعرض على المحكمة، ونحن نخشى عليه العقوبة الغليظة، وأمّه لم تقلع عن البكاء والدعاء من حينها، فهو ابنها البّار، بيد أنّه يعاني أحيانًا من اضطراب نفسي يعاوده فيفقده توازنه، ويخرجه عن جادّة الصّواب، وهذا العارض موّثق طبيًّا في هذه الأوراق الرّسميّة.

قال القاضي: هل يمكن أن نذهب للعجوز؟ ففغر الرّجل فاه عجبًا من لطف القاضي وسماحته، وأجاب بكلّ تأكيد، وهرع للهاتف كي يخبر العجوز، وماهي إلّا دقائق حتى وقفوا أمام بيتها، وحين همّ القاضي بالدّخول استوقفه أحد صاحبيه ليصلح من شأنه بعد تعب السّفر، ويلبسه عباءة ثقيلة اشتراها من البلد، فقد لا تصدّق العجوز أنّه القاضي إلّا إذا كان لباسه يوحي بذلك!

ودخلوا لمجلس العجوز، وعندها زوجها الذي أصمته هول المفاجأة؛ مع أنّه لَسِن بارع كما يُروى، وكانت العجوز تعيد سؤالها للقاضي ثلاث مرّات: أحقًا يا بني أنت فلان القاضي؟! وهو يجيب العجوز الفانية، والشّيخ الهرم بما يطمئنهما.

وحين سمع الحضور حكاية الابن، وعدهم القاضي بالنّظر في أمره، بيد أنّ أحد رفيقيه دفعه الموقف المشحون بالعاطفة والشّفقة للحلف بأن يكون ابنهم معهم خلال الأسبوع القادم! وحين ركبوا سيارتهم في طريق العودة؛ لامه القاضي على هذا الوعد الصّعب؛ فالرّحمة لا تلغي العدل، وربّما يكون للقضيّة جوانب لم يطلعوا عليها بعد.

وانصرفوا من عند العجوز، ووصف لهم مضيفهم الطّريق، فعادوا للمملكة، وفي الصّباح قال القاضي لزميله في المحكمة: سأقصّ عليك واقعة عجيبة فأنت تحب الأعاجيب، وبدأ بالسّرد إلى نهايته، فقال القاضي المستمع هذه القضيّة عندي، وبيني وبين المدّعي العام موعد لإقفالها، فأعطاه القاضي ملف السّجين الطّبي، وفيه ما يثبت إصابته باعتلال نفسي.

واجتمع القاضي ناظر القضيّة مع المدّعي، ورأوا أنّ في هذه الحادثة من الشّواهد والأحوال ما يجعل الاكتفاء بالحبس خلال المدّة السّابقة عقوبة كافية، مراعاة لانتفاء الشّهود، ولقرينة وضع السّجين الصّحي، وبالتّالي أصدر حكمًا بالإفراج عنه.

وقفل الشّاب لبلاده ووالديه، وبرّ الله قسم الرّفيق في بيت العجوز، وأعان القاضي على إبلاغ الرّسالة، والإحسان لمضيفهم، وإغنائه عن عناء السّفر، وتوضيح جوانب خافية من حال الشّاب، مع ترك الحكم للقاضي المعني بما يراه مبرئًا لذمّته، مرضيًا لله.

وسبحان الله! فهكذا يصنع البِّر بالوالدين، وهكذا يفعل الدّعاء وحسن الظّن بالله، فتدبير ربّنا وحكمته يتجاوزان تصورات البشر وتخطيطهم، وكلّ يوم هو في شأن يكتب ما يشاء ويختار، وأمره لا يرد، وحكمه لا معقّب له، وإذا أراد شيئًا قال له كن فيكون، وتسخيره يغلب أيّ ترتيب، وإذا قضى ساق القاضي إلى دار المتّهم ولو كانت في منطقة عسيرة وعرة!

أحمد بن عبدالمحسن العسّاف -جدّة

ahmalassaf@

الخميس 12 من شهر ذي الحجّة الحرام عام 1439

23 من شهر أغسطس عام 2018م

Please follow and like us:

One Comment

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    الاخ الفاضل الكاتب احمد حفظه الله . سبحان الله قصة ممتعة ومعبرة التي كتبتها عن القاضي . صدقت والله على ماذكرته من تاثير مايصنع البر بالوالدين . والدعاء. وحسن الظن بالله وصدق التوكل عليه هولاء الثلاثةلهم اثر كبير في بركة كل شئ يمر بحياة الانسان . مع مايمر بكل انسان من ابتلات اختبارا من الله امتحانا لصبره تتلاشى امام عطاء الله غير المحدود . اقوله وانا مومنة من عطاءاته لي ولعائلتي . اللهم لك الحمد ولك الشكر حتى ترضى . ولك اخي الكاتب الفاضل جزاك الله خيرا وجعلها في ميزان حسناتك لتذكيرنا بنعم الله وفقك الله لما يحب ويرضى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)