ثلاثة رحلوا… والمكتبة باقية!
نحن نؤمن بالبعث بعد الموت، وبالحساب والجزاء على ما أسلفنا، ويحفظ أكثرنا ما روي عن النّبي عليه الصّلاة والسّلام بما معناه أنّ الإنسان إذا مات انقطع عمله إلّا من أثر مبارك مستمر كالولد الصّالح كثير الدّعاء، والصّدقة الجارية، والعلم الذي ينتفع به.
وربّما يغيب عن البعض التّخطيط للحياة البرزخيّة وما يتلوها، وقد يستعظم آخرون صنع آثار باقية، مع أنّها تتحقق بأعمال مقدور عليها، مثل حسن تربية ولد واحد، أو حفر بئر ماء، أو وقف جزء من المال، أو نشر علم، أو نقل خبرة، أو تعليم تقنية، أو مداومة الأمر بمعروف، أو إحياء سنّة حسنة، أو كبح منكر، أو إماتة سنّة سيئة، وما أكثر سبل الإحسان التي تنادي هل من سالك؟ وما أيسرها، وإنّما الشّأن فيمن يفكر، ويعتني، ويفعل، ويتابع، ويصدق في تجارته مع الله!
وهاهنا قصّة ذات عبرة، أرويها نقلًا عن مؤذن مسجدنا الصّديق محمّد الرّحمة، حيث كان الشّيخ فالح بن مهدي الدّوسري (1352-1392)، جارًا لهم في حي الشّميسي بالرّياض، وإمامًا لجامع أم سليم، وهو كفيف البصر، بيد أنّه أعطي بصيرة، ونباهة، وحافظة، ونشاطًا في طلب العلم، وكان مجتهدًا ذكيّاً زكيّاً، صاحب همّة وغيرة، وله عدّة كتب، ومقالات في إلجام بعض الكتّاب المنحرفين، فضلًا عن دروس منزليّة في العقيدة كما يذكر نجله سعد، وقد تخرج في كلّية الشّريعة عام 1377، وكان ترتيبه الثّاني بعد الشّيخ عمر بن مترك، بينما جاء الشّيخ ابن عثيمين في التّرتيب الثّالث، والشّيخ عطيّة سالم في الخامس، والشّيخ ابن قعود في السّابع، وللشّيخ فالح علاقة وثيقة بالمفتي الشّيخ عبدالعزيز آل الشّيخ.
وحين نزلت به مصيبة الموت، لم يترك شأن مكتبته هملًا، وتطلّعت نفسه المؤمنة إلى أن تؤول كتبه الأثيرة إلى من يدرك قيمتها، ويحسن الانتفاع منها، وإفادة الآخرين، خاصّة أنّ أولاده أطفال حينذاك، فألهمه الله أن يوصي بمصير مكتبته إلى جاره الشّهم ذي النّجدات، عبدالعزيز الرّحمة من أهل ثرمداء المتصلين بالنّسب الشّريف.
ولم يتوان الشّيخ عبدالعزيز بن محمّد الرّحمة (1357-1424)، عن متابعة تنفيذ وصيّة جاره الرّاحل، وطلب إلى أنجال الشّيخ أن يمهلوه قليلًا؛ كي لا تذهب الكتب إلّا إلى من يستحقها، وأخذ أبو محمّد يتفحص من يتوّسم فيهم الجديّة والنّبوغ، وكانت الدّعوة والعودة إلى الله في نشاط متزايد تلكم الأيّام.
ومن حرص الوصي ونصحه، أن صدقت فراسته في شاب من جيرانه، تبدو عليه علامات الذّكاء، وأخذ الكتاب بقوّة، وتتبع مجالس العلماء وثني الرّكب في الحلق، فقرّر أنّ خير من تدفع إليه المكتبة، هو جاره الشّاب الصّالح، وطالب العلم الصّادق، عبدالعزيز الوهيبي، وكان ذلك بعد سنوات من وفاة صاحبها، وما أجمل الأناة حين تكون النّتيجة صائبة، والثّمرة يانعة.
ويحتمل أن تكون هذه الكتب نواة لمكتبة الشّيخ عبدالعزيز بن محمّد الوهيبي (1384-1430)، وكان من طلبة العلم الشّرعي الخالص، ومن الحريصين على تبليغ دعوة التّوحيد والخير للنّاس في كلّ مناسبة ومحفل، وقد استفاض خبره بالفضل والحكمة في محياه، وبعد وفاته، وحين سأل سائل الشّيخ عبد الرحمن البرّاك عن صلاته في الشّارع بسبب الزّحمة عند جامع الرّاجحي، أجابه الشّيخ قائلًا: لعلّك تقصد في جنازة الشّيخ الوهيبي!
واليوم، تحوي مكتبة الشّيخ عبدالعزيز آلاف الكتب، كما يقول الشّيخ عبد الله الرّحيمان، وقريبًا سيطبع كتاب يشمل تعليقاته على بعض كتبها، بينما المكتبة كلّها في طريقها حسب وصيته إلى بلد عربي إسلامي؛ لتستقر في جامع أو جامعة، فينهل منها الرّواد، وتعظم بركاتها، وتتضاعف منها الحسنات، والله يجعل أشخاص هذه الحكاية من الفالحين، المرحومين، الموهوبين أعلى المنازل في الآخرة، بعد أن أكرمهم في الدّنيا بخدمة دينه، والذّكر الحسن، وصلاح الذريّة.
وتبقى الفكرة قائمة، والحثّ يتكرّر، بأن يسعى كلّ إنسان حصيف إلى اتّخاذ أثر واحد مبارك أو أكثر، ليكون له أجرًا مستمرًا، فجميعنا صائرون إلى حال نتمنّى فيه الحسنة مع أختها، ولا تزال الفرصة حاضرة، والسّعيد من أحسن النّية، وأتقن العمل، وما أكثر ما ترك الأول للآخر، والمعروف لا يضيع ولو بعد حين!
أحمد بن عبدالمحسن العسّاف – الرّياض
الأربعاء 26 من شهر ذي القعدة الحرام عام 1439
08 من شهر أغسطس عام 2018م