المهنيّةُ إذْ تشتكي…
وردَ في سيرةِ الإمامِ المازريِّ (ت 536) أنَّه مرضَ فلمْ يجدْ مَنْ يعالجه إلاّ يهوديٌّ، فلمَّا عوفيَ على يدهِ، قالَ اليهوديُّ: لولا التزامي بحفظِ صناعتي لأعدمتكَ المسلمين؛ فأثَّرَ هذا عندَ المازريِّ، وأقبلَ على تعلُّمِ الطِّبِ حتى فاقَ فيه، وكانَ ممَّن يفتي في الطِّبِ والفقه ([1]).
ونستنبطُ مِنْ هذهِ الرِّوايةِ التزامَ اليهوديِّ بقواعدِ مهنتهِ معْ أنَّه يُضمرُ السوءَ؛ وحرصَه على صناعتهِ حتى لا يهجرَه النَّاسُ إذا بانَ غِشُّه؛ وكانَ صادقاً في إبداءِ مشاعرهِ بلا زيفٍ، كما نلحظ أنَّ الإمامَ المازريَّ تفاعلَ معْ اعترافِ اليهوديِّ فقرَّرَ كسرَ احتكارهِ للمهنةِ وإغناءَ أهلِ بلدتهِ عنه.
إنَّ خرقَ قواعدِ المهنةِ وتجاوزَ أصولِها لمنافعَ شخصيةٍ أوْ لمصالحَ فئويةٍ أوْ لاعتباراتٍ فكريةٍ أمرٌ مقلقٌ للباحثينَ عنْ الحقيقة، فبعضُ اقتصاديينا لمْ يستطعْ أنْ يذكرَ كلمةَ “الرِّبا” في تعليقهِ على الأزمةِ الماليةِ بينما يصرِّحُ بها خبراءُ الاقتصادِ العالمي، وفي مصرَ ثارتْ زوبعةٌ حولَ نقابِ الممرِّضاتِ-زانهنَّ اللهُ بالسترِ- معْ أنَّ النِّقابَ لا يؤثرُ على أداءِ المهنةِ الشريفة؛ وتضيِّقُ بعضُ الجامعاتِ على أعضاءِ هيئةِ التدريسِ وطلابِ الدِّراساتِ العُليا بسببِ اختلافِها معهم جزئياً؛ وفي ذاتِ الوقتِ تستضيفُ آخرينَ يخالفونَها مخالفةً شبهَ كلِّيةٍ بدعوى الحوارِ والانفتاح! وليسَ مِنْ السلوكِ الأكاديمي في شيءٍ تحوُّلُ بعضِ الجامعاتِ منْ مراكزَ علميةٍ وبحثيةٍ إلى ثكناتٍ عسكريةٍ وقلاعِ تحقيق.
ومنْ أكثرِ القضايا المهنيةِ المثيرةِ للجدلِ ما يتعلَّقُ بالإعلامِ ووسائلِ النَّشرِ الورقي والإلكتروني؛ فإحدى القنواتِ العربيةِ وصفتْ البابا بنعوتِ الجلالِ والقداسةِ بينما تستكثرُ على بعضِ علماءِ المسلمينَ نعتاً واحداً، وتجرَّأتْ بعضُ وسائلِ النَّشرِ على القذفِ والاتهِّامِ والتحريفِ مراراً ممَّا أثارَ حفيظةَ المتضرِّرينَ وعامَّةِ المتابعين، وكانَ منْ آخرِها ما تداولتهُ وسائلُ الإعلامِ عنْ تقريرٍ سيءٍ حولَ الإعلامياتِ السعوديات؛ وقدْ هبَّتْ هيئةُ الصَّحفيينَ السعوديينَ بغضبةٍ مُضريةٍ وغَيرةٍ مهنيةٍ معْ أنَّها لمْ تأبهْ لممارساتٍ صحفيةٍ مماثلةٍ استهدفتْ آخرين!
ولا جدالَ في حُرمةِ القذفِ وقُبحه؛ بيدَ أنَّ المراقبينَ يتمنَّونَ منْ الهيئةِ غضبةً -ولوْ لمْ تكُ مضريةً- تجاهَ ما ينشرُ في الصُّحفِ الورقيةِ ضدَّ أشخاصٍ بأسمائِهم أوْ جهاتٍ بأعيانِها؛ ومنطقُ المهنيةِ يقتضي أنْ تدافعَ الهيئةُ عنْ شرفِ المهنةِ بإنصافِ الجهاتِ المفترى عليها التي باتتْ سبيلَ شهرةٍ لمَنْ رامَ الظهورَ، ومنْ اللائقِ أنْ تذودَ الهيئةُ عنْ أخلاقياتِ النَّشرِ و لا ترضى أنْ يقيءَ بعضُ الكتَّابِ أحقادَه حروفاً فيكتبَ أحدُهم جذِلاً لإنهاءِ خدمةِ عالمٍ كبيرٍ ويقترحُ آخرُ محاكمتَه بينما يترنَّمُ الثالثُ بحلاوةِ التغييرِ ولوْ تأمَّلَ لرأى نفسهَ وبعضَ زملائهِ أولى بالتغييرِ! ومنْ المهنيةِ إتاحةُ فرصِ النَّشرِ والكتابةِ لمنْ يخالفُ الطيفَ الفكريَ الطاغيَ على غالبِ الصُّحف؛ فصوتُ الأغلبيةُ لا بدَّ له منْ منفذ.
ويجبُ أنْ نتكاتفَ لتسودَ في مجتمعنا لغةُ المصلحةِ العامَّةِ والمرجعيةِ الشرعيةِ العُليا وننأى عنْ الانتصارِ لحظوظِ النَّفس؛ وأنْ يحاكمَ جميعُ الأفرادِ والجهاتِ والمشروعاتِ والأفكارِ إلى ميزانٍ واحدٍ لا يختلفُ لأسبابٍ حزبيةٍ أوْ إقليميةٍ أوْ عمرية، ويلتزمَ أهلُ كلِّ مهنةٍ بآدابِها الشرعية، وأنْ يكونَ الاختيارُ للمناصبِ مبنياً على تحقيقِ المصالحِ المعتبرةِ فقطْ دونَ الدُّخولِ في حساباتٍ بلدانيةٍ أوْ مجموعاتٍ منغلقة؛ وإلاَّ ردَّدْنا معْ الرّصافي بعضَ قولِه:
عَلمٌ ودستورٌ ومجلسُ أمَّـةٍ | كلٌّ عنْ المعنى الصحيحِ محرّفُ |
أسماءٌ ليسَ لنا سوى ألفاظُها | أمَّا معـانيها فليستْ تُعـرَفُ |
أحمد بن عبد المحسن العسّاف-الرِّياض
الأربعاء 18 من شهرِ جمادى الأولى عام 1430
ahmadalassaf@gmail.com
([1]) سير أعلام النبلاء- الإمام الذهبي- مؤسسة الرسالة- الطبعة العاشرة 1414- ج20 ص 105.