إدارة وتربية

حتى لا يأتي الإعصار…!

حتى لا يأتي الإعصار…!

هذا مزارع طاعن في السن؛ وعنده جنّة من عمل يده: كثيرة الزروع، وافرة الثمار، وارفة الظلال، ماؤها عذب زلال، وهواءها نسيم عليل معطر بشذى الزهر والورد، منظرها يسحر العين فلا تكاد تنصرف عنه البتة، ويأسر النفس فلا تنساه أبداً.

وذات ليلة ظلماء أصاب هذه الجنة إعصار فيه نار فاحترقت، وعادت أرضاً خراباً يباباً: ماتت زروعها، وتلفت ثمارها، وغار ماؤها، وفسد هواؤها، وأنتنت رائحتها، وزال بهاؤها، وذهبت نضرتها، فلم تعد منظراً بهيجاً يسر الناظرين!

وعندها أسقط في يد صاحبها المسن وأخذ يتفكر! فإذا به أمام جهد عقود من الزمن أضناه أيام شبيبته قد ضاع واندثر؛ ثم نظر أخرى فإذا أولاده صبية صغار، لا يجلبون نفعاً ولا يدفعون ضرراً؛ بل هم على التحقيق همٌّ آخر، ثم نظر ثالثة إلى نفسه حيث يرزح تحت أثقال ثمانين عاماً أو أزيد، وقد ناوشته الأمراض والعلل من كل جانب، وتزاحم عليه الضعف والكبر والمرض من كل حدب وصوب؛ ثم بلغ منه الألم والحسرة كل مبلغ؛ لأنه لا يستطيع إعادة جنته؛ لضيق الزمان، وضعف الحال، وقلة المعين.

أفيتمنى أحد أن يكون كهذا الرجل؟ إني أظن أن لا؛ ولنستمع لقول ربنا عز وجل:” أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت، كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون”. (البقرة 266).

وروى البخاري في صحيحه في كتاب التفسير، أن عمر رضي الله عنه قال يوماً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فيم ترون هذه الآية نزلت؟ قالوا: الله أعلم، فغضب عمر فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء ياأمير المؤمنين! قال عمر: يابن أخي قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس: ضربت مثلاً لعمل، قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعملٍ، قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله عز وجل، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله (حديث رقم 4538).

وفي روايات أخرى عند ابن جرير عن عمر: “هذا مثل ضرب للإنسان يعمل صالحاً حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إلى العمل الصالح عمل عمل السوء”. وعن ابن عباس: “معناه أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل الخير حتى إذا كان حين فني عمره ختم ذلك بعمل أهل الشقاء فأفسد ذلك؟ ” فتح الباري 9 / 62 طبعة الباز.

إذاً فللعمل الصالح مبطلات ومحبطات تذهب به كلية أو تذهب بجزء منه؛ ومن هذه المبطلات:

أولاً: الكفر: قال سبحانه: ” … ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون “الآية. (البقرة 217).

ثانياً: الرياء: وهو شوب النية ولا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصاً؛ والإخلاص مطلب عزيز وهو أشبه ما يكون بالميزان الدقيق الحساس.

ثالثاً: البدعة: وهي شوب العمل؛ فمع شرط الإخلاص لا يقبل الله من العمل إلا ماكان صواباً ولا صواب إلا بإتباع النبي صلى الله عليه وسلم. والإخلاص والمتابعة هما تفسير بعض السلف لأحسن العمل في قوله تعالى: “ليبلوكم أيكم أحسن عملا” الآية. (الملك 02).. ومن ضرورات قبول العمل إيقاعه دون خلل بأركانه أو تفويت متعمد لواجباته؛ ومما يؤسف له تساهل الناس في بعض الأعمال كمناسك الحج خاصة مع بعض الفتاوى “العصرية” مما يذهب بتعظيم الشعيرة وينزع روحها.

رابعاً: السيئات والمعاصي: وقد وردت أحاديث تحذر من محقرات الذنوب ومن الغيبة وظلم الناس ومن انتهاك محارم الله في الخلوات لأنها تذهب بالحسنات وتنقصها.

خامساً: الإتيان بمبطل للعمل من أذى وعجب وإفشاء وإدلال ومن فعل ذلك كان كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً.

سادساً: دسائس السوء الخفية في النفس التي توقع في سوء الخاتمة كما صح في الخبر ما معناه أن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة فيما يرى الناس وهو في كتاب الله من أهل النار.

سابعاً: الإخلاد إلى الدنيا وإتباع الهوى كما ذكر الله عن صالح بني إسرائيل وعالمهم: ” واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه … “ الآية. (الأعراف 175-176).

فإذا كان ذلك كذلك فكيف نحافظ على أعمالنا؟

أولاً: أن نموت على الإسلام: قال سبحانه: “ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون” الآية. (آل عمران 102). قال بعض العلماء: الموت على الإسلام يكون بالمداومة على الأعمال الصالحة؛ لأن الإنسان يموت على ما كان يكثر منه ويبعث على ما مات عليه. ومن الأدلة الواضحة على ذلك حديث المحرم الذي وقصته دابته فمات محرماً بالحج فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إنه يبعث يوم القيامة ملبياً”.

ثانياً: تعاهد إخلاص العمل لله وتفقد النية عند كل فعل أو ترك حتى لا تكون أعمالنا عادة أو مجاملة أو غير ذلك مما يذهب بأجرها خاصة في العبادات التي يمكن أن تأخذ أبعاداً أخرى تطغى على الجانب التعبدي أو تلغيه تماماً؛ والله ربنا سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك.

ثالثاً: تحري إتباع السنة في أداء العبادة وإيقاعها على الوجه الصحيح الذي يرضي ربنا، ويكون ذلك بالتفقه فيها قبل الإقدام عليها تجنباً لغائلة البدعة وحذراً من نقصان العمل أو الإخلال به؛ وكم في سؤالات المستفتين عن الحج والعمرة خاصة من جهالات وبدع ماكانت لتكون مع التفقه والعلم. والإخلاص ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هما ساقا الإسلام كما يقول ابن القيم رحمه الله وبدونهما لايكمل عمل العامل ولا يقبل.

رابعاً: مبادرة السيئة بالحسنة لمحوها مصداقاً لقوله سبحانه: “إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين” الآية. (هود114). واتباعاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “واتبع السيئة الحسنة تمحها” الحديث. ويجب على الإنسان تزكية نفسه وتربيتها على العمل الصالح ومحاسبتها وتنقيتها من علائق الدنيا حتى تزكو للمؤمن نفسه ويجد لذة العبادة وأنس الطاعة وروح اليقين بالله عز وجل.

خامساً: الدعاء بالثبات حتى الممات ومن الأدعية الجامعة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يرددها في سجوده “اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك” ومنها أيضاً “ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب”، وغيرها كثير من الوارد في الكتاب العزيز والسنة الشريفة.

سادساً: الحيطة والحذر من مداخل الشيطان على النفس البشرية، وهذه المداخل كما ذكرها ابن القيم رحمه الله هي: الكفر والبدعة والكبائر والصغائر والمباحات ثم الانشغال بالمفضول عن الفاضل. حيث يحاول عدونا -أعاذنا الله منه- أن يغوي الإنسان بواحدة منها مبتدئاً بالكفر ومنتهياً بحيلته التي يلبس فيها على كثير من الصالحين وهي الانشغال بالعمل المفضول عن العمل الفاضل. وقد يبدأ الشيطان _ نعوذ بالله منه _ بالصغرى متدرجاً حتى يقذف بصاحبه إلى هاوية الكفر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

سابعاً: صح في الحديث أن لكل عمل شرَّة أي اجتهاد فيه وإقبال عليه، ثم لكل شرَّة فترة أي فتور عن العمل وتراخٍ فيه فمن كانت فترته إلى السنة فقد هُدي أي من كان فتوره لا يرده عن الفرائض ولا يقحمه في الكبائر فقد هُدي ونجا بفضل الله؛ ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك أي من كانت فترته إلى ترك الفرائض وفعل الكبائر فقد هلك وباء بسخط الله واستحق عقابه، وليكن حاضراً في خلدنا أن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل.

ومن الأمور المعينة على التغلب على الفتور حين وقوعه ما يلي:

  1. فعل طاعات غير مجهدة للجسد مثل الذكر والدعاء والصدقة وإماطة الأذى عن الطريق والتبسم في وجه المسلم والتفكر بعظمة الله سبحانه وهي عبادة جليلة لا تحتاج إلى زمان أو مكان أو نظام معين؛ وجسم الإنسان وهذا الكون الفسيح ومجرى الأحداث كل ذلك ميدان خصب للمتفكرين.
  2. استشعار المعاني التعبدية لكل عمل كالدراسة والطعام والنوم والجماع والترويح عن النفس بالمشروع المباح؛ إذ الترويح مقصود ليس لذاته بل لإجمام النفس حتى تنشرح للعمل وتقبل عليه بلا تلكؤ أو تردد.

ثامناً: أن يكون للواحد منا خبيئة من عمل بينه وبين الله لا يطلع عليها أحد من الناس فعمل السر أدعى للإخلاص وفيه دليل على محبة الله والرغبة فيما عنده. ومن القصص المعبرة حول العمل الخفي قصة النفر الثلاثة ممن قبلنا الذين باتوا في غار ثم حبستهم صخرة عن الخروج منه فدعوا الله بصالح أعمالهم فاختاروا أعمالاً خفية ليس لها من دافع سوى رجاء ما عند الله أو خوف عقابه.

تاسعاً: اتخاذ صحبة صالحة تعين على الخير وتحجز عن الشر ويكون منهم قدوات في التأله والتعبد يقبس منها الإنسان خيراً لنفسه؛ ومن الصحبة الحاضرة إلى صحبة سلفنا الكرام من خلال مدونات السير نعيش معهم ما يحقر واحدنا معه القليل الذي يفعله ولله المشتكى.

عاشراً: كن واثقاً بالله لا بعملك متوكلاً عليه سبحانه وحده وناظراً إلى عملك – مهما كثر- أنه جهد المقل الذي يرجو قبوله من ذي الإحسان الدائم والنعم التي لا تحصى.

فوائد متفرقة:

  • قال الحافظ ابن حجر: “وفي الحديث قوة فهم ابن عباس وقرب منزلته من عمر وتقديمه له من صغره، وتحريض العالم تلميذه على القول بحضرة من هو أسن منه إذا عرف فيه الأهلية لما فيه من تنشيطه وبسط نفسه وترغيبه في العلم”.
  • تضرب الأمثال في القرآن لتقريب المعاني وتيسير الفهم والتفكر، وقد كان أحد السلف يبكي إذا لم يفهم مثلاً من أمثال القرآن لأن الله يقول: “وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون”. (العنكبوت 43). وقد بين سياق الآية الحكمة من ضرب هذا المثل وهي التفكر لأخذ العبرة والعظة التي تستلزم أعمالاً صالحة وقربات متنوعة.
  • فضل العلم الذي جعل ابن عباس مقدماً عند عمر على كثير من أشياخ المهاجرين والأنصار _ رضي الله عنهم جميعاً _.
  • أن كلمة “لعل” في القرآن تأتي بمعنى لأجل لأن الله سبحانه وتعالى لا يرجو شيئاً.
  • الجنة في القرآن هي الحديقة؛ غير أن الجنة تتميز بوجود النخيل والأعناب.

وبالجملة فينبغي للإنسان المسلم – وهو مذنب لا محالة – ألا يجاهر بمعصيته، ولا يصر عليها، ولا يوقع غيره فيها، وألا تكون معصيته من النوع الذي يبقى كمن يكتب الباطل أو يقوله أو يؤسسه أو يبقيه؛ كما يجب عليه أن يبادر معصيته بالحسنة، وأن يكثر من الصالحات خاصة الأعمال التي ثبت عظم أجرها أو كان نفعها متعدياً أو يبقى أثرها على مر العصور ومضاء الزمان.

أحمد بن عبد المحسن العساف

الأربعاء 06 من رمضان 1425

الرياض؛ حرسها الله

 

Please follow and like us:

2 Comments

  1. حزاك الله خير
    وقعت اليوم على مدونتك وسقت اليها سوقا دون قصد أو عمل. فما أجمل ما قرأت وأطيب ما نقلت وأحكم ما نصحت فجزاك الاه خيرا على نقلك واثابك في عملك وأبقى لك الأثر بعد اجل ممدود وعمل محمود وعلم منتفع به ممدود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)