سياسة واقتصاد لغة وأدب

الدرس الأخير!

الدرس الأخير!

في تاريخ أوروبا الحديث، تبرز الحروب الألمانيّة الفرنسيّة، ضمن أهم الأحداث، وأيّ حرب بينهما، تكون في الغالب انتقامًا من واقعة سابقة، ويبدو أنّ هذا الحنق المتبادل، تخفيه الآن الدّبلوماسية، وتلجمه المصالح المشتركة، والمشكلات المحيطة، لكنّه ظهر في ملعب كرة القدم؛ بلكمة عنيفة من الحارس الألماني شوماخر، كادت أن تهلك لاعبًا فرنسيًا بعد أن أفسدت معالم وجهه!

وفي حرب بينهما خلال القرن التّاسع عشر، كان من مفردات الاستعلاء الألماني، منع التّدريس باللغة الفرنسيّة، وإحلال الألمانيّة مكانها، لأنّهم يعرفون مركزيّة اللغة في ثقافات الأمم، وتأثير اللسان على الوعي، والشّعور، وقديمًا قال الإنجليزي توماس مكولاي: لن نكسر العمود الفقري لثقافة الهنود إلّا بتغيير لغتهم!

وحزنًا على الفرنسيّة، وحميّة لها، كتب الأديب الفرنسي الفونس دوديه (1840م-1897م) قصّة قصيرة ذائعة الصّيت بعنوان: الدّرس الأخير، وهي مترجمة للعربيّة مكتوبة ومنطوقة، وإنّ قارئها ليلتقط ما فيها من عاطفة، ومرارة، وندم على التّفريط، وعزيمة على التّصحيح، واعترافات صريحة، وإشارات حكيمة.

وقد أظهر المستقبل القريب والبعيد صدق القوم، حيث ينطق بالفرنسيّة الآن ثلاثمئة مليون إنسان تقريبًا، سواء كانت لغتهم الأولى أو الثّانية، ولها حضور متفاوت في جميع القارات، وهي لغة رسميّة في ثلاثين بلدًا، وتعدّ ثالث لغة في أوروبا، وإلى زمن قريب يشار إليها على أنّها لغة القانون، والأدب، والحب.

يقوم عمود القصّة على طالب يتأفّف من درس الّلغة، وتصعب عليه قواعدها، ولا يجد في نفسه ميلًا كبيرًا لها، وحين ذهب ذات يوم للمدرسة يتمطّى متأخرًا، لفت انتباهه ارتباك الشّارع والمارّة، واستغرب بالمقابل من هدوء المدرسة، ثمّ دخل إلى الفصل بسكون حذار معلمه، الذي لم يعنّفه كالعادة!

ولاحظ الفتى أنّ الأستاذ متأنق جدًا في لباسه، كما لمح بعض كبار السّن جالسين في آخر القاعة، واكتشف فيما بعد أنّهم وفدوا للتّعبير عن شكرهم للمعلم العتيق العريق، الذي لم يستبينوا فضله إلّا قبيل ارتحاله قهرًا، بعد أربعة عقود مضنية صرمها في تعليم أبنائهم!

وبألم صادق، وحزن متماسك، أنبأهم المدّرس أنّ هذا هو آخر يوم له معهم، فمن الغد سيأتيهم أستاذ ألماني بناء على أوامر المحتل، ولن يكون للفرنسيّة نصيب من منهجهم الدّراسي! وبتجرّد، لام المعلم نفسه على تفريطه في تعليم الطّلاب، واستخدامهم لمصالحه الخاصّة أحيانًا، وأقرّ الطّلبة بتقاعسهم، حتى خرج الجميع بنتيجة حاسمة واضحة، فحواها أنّ صيانة اللغة ليست مهمّة حصريّة على المعلم، ففي عنق الجميع واجب تجاهها!

ولم يضع طرفا العتاب الوقت، فشرع المعلّم يشرح لطلابه القواعد وفنون الّلغة، ويعلّمهم الكتابة وأساليبها بإبداع وإخلاص، وكان طلّابه رائعين في الفهم والاستجابة خلافًا لماضيهم، حتى أنّهم لم ينشغلوا بمتابعة حشرات تجوب الغرفة، فالخطر القريب يجعل الصّغائر مهملة، بعد أن كانت ساحة منافسة وعراك!

فاشترك الكّافة بالخوف من أنّ شيئًا مقدّسًا سيؤخذ منهم عنوة، ويسلب كرهًا، ويستبدل بغيره، فأصروا على التّشبّث به، وزيادة التّرابط معه، ونسيان ماضي القطيعة والتّمرد والمشاكسات، ففي الأزمنة الحرجة، يتسامى الكبار، وينسون مؤاخذاتهم، ويقفون في بنيان مرصوص غير قابل للاختراق!

وعندما أراد المعلم توديع طلابه، لم يتمالك نفسه، ولم يستطع قول ما في خلده من كلمات، بيد أنّه لم يظهر ضعفًا ولا خورًا، واستدار نحو السّبورة ليكتب ثمّ يهتف: عاشت فرنسا! فلتحيا فرنسا! وكانت كلماته هذه كافية لإشعال فتيل الحماسة في نفوس التّلاميذ، وإحياء أنفة أشياخ المقاعد المتأخرة.

ولقد حملها القوم، وأورثوها لمن بعدهم، فالشّرفاء يستمسكون بمعاني العزّة، ويسترجعون زمام المبادرة، حين تداس أركان ثقافتهم، أو تهان رموز تقاليدهم، أو تنتهك أعرافهم، أو يقترب العدو من بلادهم، ويأبون الجمود مادام في عروقهم دماء تسيل، وبين جنوبهم نفوس لازالت أبيّة نقيّة شجاعة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الخميس 26 من شهرِ رجب الحرام عام 1439

12 من شهر إبريل عام 2018م

Please follow and like us:

5 Comments

  1. جزاك الله خيرا
    مقالة قيمة ومفيدة . فقد ادهشني اثناء تواجدي مع زوجي في المتشفى . تنوع المرضى من جنسيات مختلفة . وكل يتكلم بلغته الاصلية فيما بينهم مع اجادتهم اللغة الانكيزية . وعنما كنت اسئلهم . متى قدموا لااستراليا اخبروني . بانهم قدموا واستقروا في استراليا منذ خمسين سنة واكثر . فلالاعتزاز باللغة الاصلية شئ جميل . يحتفظ به ويعلمه لاابنائه

  2. جزاك الله
    مقال مفيد رائع يحمل في طياته مفاهيم جميلة وذو مغزى اتمنى ان نتعايش معه شعبنا السليب في سورية
    لك كل التقدير والاحترام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)