تأملات في “السّيارة”
السيارة من المخترعات الحديثة التي فتح الله بها على الإنسان المعاصر؛ وتختلف نظرة الناس للسيارة، فالأطفال يرونها وسيلة للمتعة، وتسيطر السيارات على أحلام المراهقين واهتمامهم فإذا ما ظفروا بها اتخذوها دمية ولعبة يلقون عليها الحتف ويؤذون بها الخلق. أما الراشدون فيرونها نعمة قربت المسافات وحفظت الأوقات وأعانت على الوصول للمآرب، وقد نظرت في السيارة فوجدت عبراً ودروساً وحكماً منها:
- لا يسمح لأحد بقيادة السيارة قبل أن يتدرب عليها ويتعلم قوانين المرور ثم يحصل على رخصة قيادة؛ فعجبت ممن هجموا على شرع الله وكسروا باب الفتوى بلا علم ولا إذن أشياخ الفنون والعلوم؛ فنتج من هذه الهمجية التي فقدت المنهجية السائق المتهور “الغلاة”، والسائق الأخرق “الجفاة”.
- قبل قيادة السيارة لابد من تهيئتها حتى تقطع الطريق بسلام وتبلغ الغاية بلا توان، غير أن بعض الناس لا يعي هذه القاعدة فيروم الوصول بلا أسباب ويرفض نظرية “النفس الطويل” ويتكئ على حسن المقصد وصفاء السريرة؛ وكم شهدت الميادين الكبرى تحطم أفخم السيارات وموت مَنْ بداخلها دون أن يستفيدوا من جودة الصنعة وقوة المحرك!
- من يقود السيارة يراقب خزان الوقود ويتأكد من صلاحية إطاراتها، وهكذا من يلج أمراً أو يهم بشأن لابد أن يتأكد من أهليته لذلك وامتلاكه عدة هذا الشأن ومتطلباته.
- سائق السيارة لا يقف في منتصف الطريق أبداً؛ وكذا الذين يملكون رؤية منهجية مطردة فيقبلون ما وافقها ويردون ما خالفها مبتعدين عن التميع وأنصاف الحلول.
- ولقائد السيارة هدف يسعى لبلوغه دون التفات لمن وراءه إلا من خلال مرآة يرى الناس بها ولا يرونه، وأصحاب الهمم العالية والرؤى العميقةوالهم الكبير يمضون في طريقهم راشدين من غير اعتبار لمرجف أو مخذل أو جبان.
- وإذا رغب السائق في الانعطاف لزمه تنبيه الآخرين بإشارة حتى لا يصطدم بغيره ويكون الحق للآخر؛ والواجب على من يغير رأياً له في مسألة مهمة أو عامة أن يناقش العارفين قبل أن يعلن رأيه لعله أن يكون غير مصيب في التغيير فتنفعه الإشارة!
- والحاذق الماهر يراعي السيارات الأخرى ويحترم مسارها وحقها في الطريق؛ وبعض قومنا يتصرف وكأنه الوحيد في الدنيا فلا يراعي باقي السائرين معه مما يجعلهم ناقمين عليه وقد يتمالئون فيضيقون عليه الطريق حتى لا يجد مسلكاً ولا مخرجاً.
- وما من سيارة في الدنيا إلا وتحتاج لإعادة ملء الوقود وتغيير الزيوت والتنظيف المستمر وفحص المحرك وكل ما من شأنه الإبقاء على المركبة سليمة خادمة صاحبها؛ ومن المدهش أن البعض لا يسعى في تجديد معارفه ومراجعة آرائه وفحص مواقفه وتنويع ثقافته وكأنه النموذج المثالي بعد رفع النبوة.
- وكما يسعد المالك بتسجيل سيارة فخمة باسمه ولا يفرح بتسجيل أخرى بالية عليه؛ فكذلك يجب على المفكرين والكتاب والأدباء والساسة أن يسعوا لنسبة الحسن إلى فكرهم وأقلامهم وقراراتهم ونبذ القبيح المشين عنهم لأن التاريخ يروي ولا يجامل.
- ولا نزال في عالم الفخامة؛ فالسيارات الفارهة دليل على ثراء أصحابهاوارتفاع قدرهم، وهكذا الفكر السامي يشير إلى نباهة أهله ويبقى الوضيع أسير الأفكار التافهة.
- والسيارات الفخمة تأبى مسابقة السيارات البالية؛ والعلماء والمخلصون لا يجارون أهل الأهواء ولا ينساقون لخدعهم وأباطيلهم؛ فمن رأي سيارة بنصف مليون تسابق أخرى لا قيمة لها؟
- وتجديد السيارة مطلب خاصة مع كثرة الاستخدام؛ لكننا نشمئز من أشيب يركب سيارة سباق أو كشف ولا نصدق أن مراهقاً يمتطي الفخمة الرزينة إلا أن يشينها بلهوه وعبثه.
- وكما تحتاج السيارة للصيانة بعرضها على الفنيين؛ فكذلك النفس تحتاج إلى عرض على العلماء ليصححوا الخطأ وعلى المربين ليقوموا السلوك وعلى الزهاد ليرققوا القلوب؛ ومن يعتني بسيارته يذهب إلى وكالتها؛ ومن يعتني بنفسه يذهب بها إلى أعلم الناس بخالقها سبحانه؛ ولله المثل الأعلى.
- وللسيارة علامات تنبي عن الخطر كنفاد الوقود أو ارتفاع الحرارة أو فراغ الشاحن، وينبغي لكل واحد منا أن يتخذ لنفسه من نفسه مؤشرات الخطر ونذر السقوط لئلا يقع ولات حين مندم.
- وينبغي على قائد السيارة أن يستفيد من الأنوار والمرايا وأن يراعي ناقل السرعة ويلاءم بينه وبين الدفع والكبح؛ وذات الأمر يجب على من يقود أمراً بأن يستفيد من ذوي الخبرة والشأن وألا ينفرد بالرأي كي لا يقع في حادث تصادم مريع!
- وحين تنتهي صلاحية إطارات السيارات يبحث مالكها عن بديل من نفس المادة الأصلية لها ويستحيل أن يطلب إطارات خشبية أو حديدية أو حتى ذهبية ولو فعل لما تحركت سيارته شبراً، ولذا فليت الذين يبحثون عن نماذج النجاح في التعليم والإصلاح العام ألا ينقلوا لمجتمعنا المسلم تجارب مجتمعات تخالفنا في كل شيء عدا الأصل البشري إلا ما كان من هذه النماذج متوافقاً مع بنيتنا الثقافية وثوابتنا الشرعية لأننا حينها فقط سوف نتحرك.
وأشير في الختام إلى أن هذه الوقفات تأملات مجردة فلا أقصد بها عين إنسان أبداً، منعاً لأي تأويل فاسد لها؛ خاصة مع كثرة من يفسر المقاصد ويغوص في النوايا، ثم لا تراه إلا مشنعاً على غيره بهذه النقيصة وهي به ألصق.
أحمد بن عبد المحسن العسّاف
الجمعة 05 من شهر ربيع الآخر 1426
الرياض حماها الله.