الرياضة: وعي وحريّة!
ليس سرًا أنّي لم أدخل ملعبًا في حياتي، وأنَّ متابعاتي الرّياضيّة ضعيفة جدًا؛ نظرًا لانقطاع علاقتي بالتّشجيع الكروي منذ سنوات عديدة. ومع ذلك، فالرّياضة تتداخل في حياتنا رغمًا عمّن أبى، وكنت أقول لبعض المسكونين بهوس متابعة المباريات، والتّحليلات القبليّة، والبينيّة، والبعديّة: ربما يكفيكم عن المتابعة الدقيقة الاستمتاع بمشاهدة الأهداف، وأيّ لعبة بارعة، والمشاكسات لا كثّرها الله!
وخلال سنوات الجامعة، مددت يد الصّلة للزّملاء في الّلجان الرّياضيّة، وأذكر أنّي دعوتهم للمشاركة في بعض المسابقات الثّقافيّة، فاعتذر مشرفهم؛ بحجّة أنَّ ثقافته ليست دينيّة! فقلت له: ليس في مسابقاتنا أيّ سؤال ديني، وتعمَّدت جعل أسئلة ذلك الأسبوع رياضيّة خالصة من أيّ حقل معرفي آخر، وبالكاد أجاب صاحبنا المشرف الرياضي عن ثلاثة أسئلة من عشرة!
ولبعض المعلّقين طريقة آسرة في وصف أحداث المباريات، تشعِر السّامع أحيانًا أنَّ العلماء توصلّوا لاكتشاف طبي أو تقني مذهل، أو أنَّ جيوش الفاتحين واقفة عند أبواب المسجد الأقصى؛ فيا ربَّاه حقق أمانينا! ومن طرائف التّعليق الذي سمعته، قول أحد مشاهير المعلقين مخاطبًا لاعبي منتخب أفريقي في كأس العالم: الكرة الأفريقيّة أمانة في أقدامكم!
ومع الأسف، تغفل مجتمعات المسلمين عن الاعتناء بجماهير الرّياضة، مع أنّ الرّياضة فيها مميزات تجاوزت جميع الأطر، وتقدّمت حتى على المثقفين والمفكرين، وليس من الحكمة إهمال هذا الجمهور الكريم، بعد بلوغه مرحلة غير مسبوقة من النُّضج، وتجاوزه بحورًا وقف المثقفون بعيدًا عن شواطئها!
فللجمهور مثلًا مطلق الحريّة في تشجيع النّادي الذي يختاره، وفي تحويل مؤازرته لنادٍ آخر فيما بعد، ولا يملك أحد مناقشته عن سبب تفضيله لاعبًا على آخر، وهو في مأمنٍ ولو كان تشجيعه مخالفًا لميول رئيس البلد، وحتى إذا كانت تفضيلاته متعارضة مع آراء مسؤولي الرّياضة.
ويرى المشجِّعون في الملعب الحقيقة كاملة أمامهم عيانًا بلا وسائط، ودونما تحريف بتجميل أو تقبيح، ومهما قال المحلّلون والخبراء، فللجماهير شهادتهم الخاصّة، وحضورهم الحي؛ ولذا فوعيهم الرّياضي مرتفع جدًا، ومن العسير تزييفه.
ومن أكثر ما يلهب حماسة الجالسين على المدّرجات، أن يقفوا لمشاهدة العناق بين الكرة والشّباك، ومع أنّ الّلعبة الجميلة تأخذ بمجامع ألبابهم، والحركات الرّائعة تجذبهم، ومناكدات البساط الأخضر تلفت انتباههم، إلّا أنّ تركيزهم على الهدف حصري لا يفوقه شيء مهما كان، فهو مطلوبهم الأعلى.
وتطرب الجماهير لوعود المدربين، وحماسة اللاعبين، وجهود الإداريين، وتصريحات فصحاء المسؤولين، بيد أنّهم ينتظرون النّتيجة، ولا ينسون الآمال العذبة، والمواعيد الصّادرة، وما أسرع تعبيرهم عن فرحهم أو غيظهم، ولغضبتهم عواقب مشهودة تطيح بالمدربين، واللاعبين، والإداريين.
ولا ينتظر المشجع أن تتاح له منّصة كي يعبّر عن رأيه، ويقول اعتراضه، ويبدي مشاعره، ففي الملعب تتداخل أصوات الجمهور النّاطقة بخلجاتهم، ثم يكملون الحوار عبر وسائل التّواصل الاجتماعي، وليس لجمهور الرِّياضة سقف في الغالب، فالآمر والمأمور في المجال الكروي سواء!
ويمتلك الجمهور قوة ضغط رهيبة داخل الملعب، ومن تجلّياتها تغيير مجريات المباراة، وتنشيط اللاعبين، وتخذيل الفريق الآخر، وممارسة الحرب النّفسية، وحين يخرجون من المدرجات بسرور أو حزن، تتكوّن منهم مجموعات ضغط؛ لتحقيق ما يحلمون به.
وللجماهير حساسيّة واضحة تجاه التَّحيز -الحقيقي أو المتوّهم-، سواء كان من المسؤولين، أو التَّحكيم، أو الإعلام، ويطالب الجالسون على المدرجات بتطبيق الأنظمة المعلنة الواضحة، التي لا استثناء فيها، والاجتهاد ضمنها ضيّق، والتّلاعب بها مصيره الانكشاف، ولو تسلّل إليه من تسلّل!
ويرفض محبو النّادي أيّ تنازلات تزري بفريقهم، ويرونها خيانة غير مسوّغة ولو سيق لأجلها ألف تفسير وتفسير، فالمصلحة عندهم يجب جلبها لمحبوبهم، والمضرّة لا مناص من دفعها عنه، وأيّ تصرف ينجم عنه خلاف ذلك، يستثيرهم، ويحفظهم.
ويرى المشجّعون أثر المال على الفريق، فجريان المال وفيضانه، مؤذن بمستقبل باهر، وجفافه أو ندرته نذير بالهبوط، كما يستبين للجمهور تأثير اللاعب الأجنبي والمحترف، ويلحظون إيجابيّة المسؤول الذي لا يخشى وجيهًا، ولا يقبل توجيهًا من غير مسؤول أعلى منه، ويعلمون يقينًا أنَّ المال، والخبرة، والاحتراف، وإدارة المعرفة، والصّلاحيات المنظمة، مع النّوايا الصّادقة تصلح أيّ قطاع.
وتضحك جماهير الرّياضة ملء أفواهها على المنافقين الأفاكين، فلا أحد منهم يرغب بهبوط ناديه لدرجة أقلّ، مهما كانت المغريات، وترتفع لدى الرّياضيين القدرة على المقارنة مع المستويات الإقليميّة، والدّوليّة، ويبرعون في الإفادة من علم الإحصاء الجميل؛ وهو علم لم ينل مكانته المرموقة في الشَّأن العام حتى الآن.
وحين يأخذ الواحد منهم مكانه في المدرجات، يمنح المباراة أعلى ما يستطيعه من انتباه وتيقظ؛ فلا مجال لإعادة شيء كرّة أخرى في الغالب، ومن اليقينيّات الواقرة في خلد الجماهير، أنَّ الفائدة ترجى داخل خطوط الملعب فقط؛ وما وراءها تجميع للكرات الطّائشة فقط، والأمل منعقد بمن داخل الملعب، وليس بالقابعين على مقاعد الاحتياط؛ إلّا ما ندر.
وإنَّ جمهور الرّياضة العزيز، الذي تجاوز المهنة، والقبيلة، والإقليم، واجتمع في رحاب أندية الكرة بألوانها الزّاهية، لجدير بأن ينخلع من هذه العصبيات التي تؤذي إن تجاوزت الحد، ويلتقي مع مواطنيه على مصالح بلاده وما ينفعها، ويتشارك مع بني أمته على نصرة قضاياها، وإعلاء ثقافتها وحضارتها، وهذا المرجو من جمهور يتوقف لأداء الصّلاة، ويردّد مع المؤذن، ويكبّر في أيام التّكبير، ويُنشِد لمقام النبي الكريم، ولا يخالف الأنظمة المرعيّة.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الخميس 05 من شهرِ رجب الحرام عام 1439
22 من شهر مارس عام 2018م
One Comment
مقال جميل ومعبر ويحمل في طياته معان كثيرة .. وصدقت في كل ما قلت .. صدقا من المقالات البسيطة والجميلة التي تمتعت ب قراءتها اليوم وهو ليس بالامر الغريب عليكم يا استاذي .. حفظك الله ورعاك ووفقك