سبع زيارات للتّاريخ (7)
دافيد روكفلر
ختم هيكل كتابه الماتع زيارة جديدة للتَّاريخ، بزيارة امتزج فيها المال مع السِّياسة، حتى غدا التَّفريق بينهما صعبًا لتلاصقهما، وتشاركهما في المصالح والمخاطر، وبالتَّالي في الخطوات والقرارات المحليّة والدوليّة.
وعليه كانت سابع زيارة في الكتاب لرجل الأعمال الأمريكي دافيد روكفلر، وعنوانها: القرار الأمريكي.. من يملكه؟! وفي مقدمة قصة الزِّيارة، يخبرنا هيكل أنَّ في جدوله ثلاث زيارات ثابتة، الأولى سنوية لأوروبا في لندن وباريس، والثَّانية كلّ سنتين لآسيا أو أفريقيا، والثَّالثة لأمريكا كلّ ثلاث سنوات، وفي الثَّالثة ظل اسم روكفلر ثابتًا في جدول زياراته ولم يتزحزح، باعتباره صديقًا قديمًا؛ وليس صديقًا حميمًا!
ويشير هيكل إلى أنَّ ما يثير اهتمامه بدافيد روكفلر ليس غنى أسرته الفاحش، ولكن لأنَّه “بابا” المصارف الأمريكية، وأمير نيويورك بلا منازع، ورئيس حكومة الظِّل التي تشارك في توجيه حكومة واشنطن، وبالتَّالي فهو من أقطاب النُّخبة المهيمنة في أمريكا.
وطرح هيكل سؤالًا متداولًا عمَّن يدير أمريكا؟ وما موقع الرَّئيس الأمريكي في دائرة القرار؟ وذكر أنَّ الشّيوعيين يرون القرار الأمريكي موزعًا بين المال في وول ستريت، ومخابرات السي آي إيه، والقوات المسلّحة في البنتاجون، بينما يجزم الليبراليون بأنَّ القرار بيد ساكن البيت الأبيض، فأمريكا مجتمع ديمقراطي مفتوح، رضي برئيس بائع خردوات، وراعي بقر، ومزارع فول سوداني، وممثِّل من هوليوود، وسيقبل ما يفعلونه لمصلحة أمريكا.
ويرى هيكل في الجوابين تسطيحًا أو نظرية مؤامرة، ويعتقد بأنَّ الجواب الصحيح معقَّد للغاية، وهو مهم لنا في العالم العربي؛ لأنَّنا مربوطون بسلاسل مع أمريكا، بعضها من ذهب، وبعضها من حديد! ويخلص إلى أنَّ القرار الأمريكي متركز في يد من يملكون المصالح الحقيقية فيه.
وعليه، يكون لدافيد روكفلر صوت مؤثر في القرار الأمريكي، بيد أنَّه ليس الصُّوت الوحيد، ويعترف روكفلر في جوابه لهيكل بأنَّ السِّياسة والمال وجهان لعملة واحدة. ويرى هذا الرَّأسمالي بأنَّ أكبر قدر من النَّجاح يرتبط بأقلِّ قدر من الكلام! والقاعدة الذَّهبية في عمل البنوك هي الصَّمت! وحين سمع روكفلر من هيكل، أنَّ السُّكوت من ذهب، طلب من معاونيه حفر هذه الحكمة على لوح فضي، وتعليقه في مكتبه، ومع ذلك، يتكلم دافيد بقدر ما يريد، وليس بقدر ما يطلبه المستمعون.
ولأنَّ اللقاء بينهما كان في 18 أكتوبر عام 1975م، فقد سأل الأمريكي عن سبب خلاف هيكل مع السَّادات فيما يتعلّق بإسرائيل؟ وينفي روكفلر أنَّه أقنع السَّادات بشيء تجاهها، وإنَّما قال له بأنَّ رأس المال الأمريكي لن يأتي لمصر إلّا في أجواء السَّلام! وأنّ الشّرق الأوسط-الشَّرق الإسلامي- منطقة قلق وتوتر، ولن تهدأ بغير تطبيع كامل مع إسرائيل.
ويشير هيكل إلى أنَّ كسينجر مع مكانته الكبرى، التي تجاوزت منصب وزير الخارجيّة، أو مستشار الأمن القومي، كان قبل ذلك وخلاله وبعده، موظفًا لدى أسرة روكفلر، فلا غرابة أن يكون للأسرة تأثير كبير في القرار الأمريكي.
ثمّ أفاض هيكل في تاريخ هذه الأسرة، وتكوين المؤسسة الشَّرقية، وتأثيرها، ومجالها، ثم تكوين المؤسسة الغربيّة، وتأثيرها، ومجالها، وبالتَّالي فشرق أمريكا، وغربها، ضالعين في سياساتها. ومما استعرضه هيكل أسماء موظفين كبار في الحكومة الأمريكيّة، عسكريين ومدنيين، ولكلّ واحد منهم ارتباطات ومصالح مع مؤسسات ومنظمات تنتمي لشرق أمريكا أو غربها، فالحكومة حكومة مصالح!
ومن تحت عباءة هذه المؤسسات، نشأت مؤسسات خيريّة طويلة اليد، ومراكز أبحاث وتفكير شهيرة، ومنظمات نافذة، كصندوق النَّقد، والبنك الدَّولي؛ بل إنَّ ترتيب أسعار النّفط، وطرق تجارة العالم، من الأمور المتداولة بينهم، فضلًا عن الصَّفقات الخاصّة بالتَّسلح وغيرها.
ولهذا التَّمازج بين المال بأنواعه مع السِّياسة الأمريكيّة، فقد كانت الأخيرة تبعث رسائل سياسية مع رجال المال والأعمال، وأصبح بعض هؤلاء الرّسل مفاجأة لمن استقبلهم، وكان دافيد روكفلر قد زار مصر أكثر من عشر مرات؛ لمقابلة السَّادات بشأن السَّلام مع اليهود، وحين أبدى هيكل قلقه من ذلك، أجابه الرَّئيس: لا تقلق! فسوف تنزل علينا المساعدات والأموال مثل الرُّز!
ويصف هيكل المؤسسة الشَّرقية بالحكمة والأناة، بينما يبدو على المؤسسة الغربيّة السّرعة، والتَّهور، والحماقة، ويسيطر عليها جنرالات أمريكا. وينصح هيكل العرب بأن يفهموا أمريكا، ويعوا تجربتها، ويعرفوا أصل تكوينها القائم على العنف، قبل التّوجه إليها بخطاب استعطاف، أو تخويف من تعصب ديني، أو تلويح بانفتاح، فهؤلاء القوم يولون مصالحهم أهميّة كبرى-ولا غرابة-، ومن البديهي أن نحرص على مصالحنا كما يفعلون أو أكثر؛ كي لا نكون الأقل ربحًا؛ بَلَهِ الخاسرين!
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الخميس 27 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1439
15 من شهر مارس عام 2018م