القراءة سعادة وحريّة!
إذا كانت الكتابة عملًا من أعمال المدافعة؛ لأنّها تنشر الوعي، وتبّث المفاهيم، وتفضح الفساد، وتقاوم الطُّغيان، وتنطق بهموم المحطومين والمهمّشين، فإنَّ القراءة موقدة شعلة الكتابة، وهي بوابة كبرى للحريّة، وسبب أكيد للسّعادة، وكيف لا تكون كذلك وهي ملك خالص للمرء، وبين جنبات المكتبة تتبادل الأفكار، وربما تتصارع، وتشرق شمس المعرفة، وفي إشراقتها سرور بالغ.
ولأجل هذا؛ يكون الحديث عن القراءة، والكتابة، والمكتبة، من أسمى الأعمال، وألذّها، وهو ما جناه كتاب لطيف بعنوان: داخل المكتبة.. خارج العالم!: نصوص عالميّة حول القراءة، اختيار وترجمة راضي النّماصي، صدرت طبعته الثّالثة عام 1439=2018م، عن دار أثر للنَّشر والتَّوزيع، ويقع في (151) صفحة من القطع المتوسط، على ورق مريح للعين.
كتب البروفيسور سعد البازعي تقديمًا احتفائيًا للكتاب، ولا يلام على فرحه بإنجاز شبابي رائع؛ ليس لقلة الإسهامات كما يقول، وإنَّما لضخامة الاحتياج، ولذلك أكدّ في خاتمة تقديمه القصير المحكم، أنّ لكلِّ واحد دوره في شحن الثَّقافة بالجديد، وإشاعة الحيوية في أرجائها، وإثراء العقول بما لدى الحضارات الأخرى.
والكتاب كما يذكر مترجمه يهدف إلى غاية نبيلة، وهي ألّا نقرأ كما يفعل باقي النّاس؛ كي لا نفكر مثلهم! ولتحقيق هذا الهدف، عمد المترجم النَّماصي إلى انتقاء نصوص توافق طموحه، واشترط لتسعة مقالات اجتباها بعناية، أن تكون نصوصها عميقة المحتوى، وكاتبها مؤلف شهير، ولم يسبق ترجمتها للعربيّة من قبل.
ومن أهم نصائح الكتاب ما قالته فيرجينيا وولف حول ضرورة الاستقلاليّة في القراءة، واختيار الكتاب، فتلك هي الخاصيّة الأهمّ لكلّ قارئ، وقد ينحصر فهم بعضنا لقولها بتحاشي مقترحات قوائم الكتب فقط؛ بينما الأمر أوسع، كي لا يقع القارئ في شباك الإعلانات، وحبائل الأكثر مبيعًا، وتزوير القابعين خلف الشّاشات دون وجه حقِّ، وأخطرهم من يروّج لكتاب تافه أو مشبوه، لأنَّ مؤلفه من ذات التّيار أو الرّفقة.
ومن تمام حريّة القارئ أن يمنح للكاتب حقّه في كتابة ما يشاء، ولقارئنا بعد ذلك حريّة الفهم، والموافقة أو المخالفة، فهو المقارن والقاضي، والمفسِّر لكلام الكاتب، وأيُّ استحقاق أعظم من هذه الحريّة الثقافيّة؟ وفي هذا الجانب من القراءة، تزداد حكمة القارئ، وتصقل خبرته، وتضيء جوانب عقله، ومن الانصاف للكاتب أن نقول بأنّ تفسيرات القارئ غير ملزمة له، وأحكامه في النّهاية تبقى فرديّة. ومن التّحرز الّلازم، الإشارة إلى أنَّ كلّ حريّة تقف دون أعتاب الشّريعة، وعند عتبات الصّالح العام.
وكنت أرفض كتابة مقترحات بالكتب لمن سألني، ووجدت موافقة من رديارد كيبلنغ الذي يؤكد أنَّ ترشيح كتاب لإنسان ما، يستلزم معرفة هذا الإنسان بدِّقة؛ كي يكون التَّرشيح مفيدًا. ويرى صاحبنا أنَّ الكتب خير علاج للكدر، ومع ذلك يحذِّر من الإفراط بالقراءة، واصفًا إيَّاها بالإدمان. وله كلمة جميلة تصلح لمواجهة بعض صرعات الكتب وتقليعاتها؛ إذ يبدي غيظه من كتب رديئة، لا تحتوي إلا على أفكار جامحة، تثير الأغرار الذين يعشقون الإثارة، وادعاء الاستقلاليّة!
ويعظم هنري ميلر صاحب كتاب “الكتب في حياتي” من قيمة استخلاص الفوائد من الكتب، ويعدُّ ذلك فنّاً عظيمًا يوازي فنّ الكتابة، ومن يجيده فقد يغنيه كتاب عن مئة كتاب! وبجرأة موفقة يقول إنَّ من يقرأ دونما وعي أخطر على المجتمعات من فرد شرير، ولعمر الله لقد صدق! وينبّه إلى أنَّ تأثير الكتاب مرتبط بزمن وصوله للقارئ، وأنّه لا معنى للقراءة إن كانت مجرد إضافة مخزون معرفي، ما لم توقظ روحك، وتشعل فكرك.
ويقسِّم هيرمان هيسه القرّاء إلى ثلاثة أنواع، الأول: السَّاذج، وهي سمة الغالبيّة الذين يلتهمون الكتب كما يلتهمون الأطعمة، فيتعاملون مع الكتاب بتلقٍّ مجرد، وليس بنديّة، تمامًا كما ينظر الحصان إلى مالكه، ويهدر هذا القارئ شخصيته حين يقرأ. والثَّاني: الطُّفولي، وهو معنى إيجابي ينزع إلى القراءة دون إدراك سابق، وبلا قوانين سالفة، وحينها يحلو الاكتشاف، وتزيد متعة القراءة تمامًا كما يسعد القنَّاص بصيده.
وثالث الأنواع: الذّاتي، فتعلّقه بنفسه لا يفوقه شيء آخر، ويواجه قضية القراءة بحريّة كاملة، ويستخدم الكتاب كنقطة انطلاق وتحفيز، وهو مثل الطّفل المستعد فطريًا لأن يلعب بأيّ شيء كما يحلو له، وليس كما يتناسب مع طبيعة هذا الشّيء، مع حضور إدراكه لما يفعل. وقبل أن يغادر هيسه تقسيماته يخبرنا أنَّه يجب علينا ممارسة هذه الأنواع كلّها، وربّما يوميًا.
ويدعو هيرمان هيسه إلى تجربة اللاقراءة، وهي ثقافة غير متعارف عليها عندنا على نطاق واسع، وسبق لي استعراض كتاب لفيلسوف فرنسي ألّفه عنها، وهي من الفتوحات المهمّة لكلِّ قارئ ومثقف، وقد لا يقرأ كتابًا بعدها، أو لا يأسف على فوات كثير من الكتب بمعنى أصح.
ويرى فلاديمير نابوكوف أنَّ من يبدأ القراءة وفي ذهنه حكم مسبق، يبدأ بطريقة خاطئة، وأكثر من يقع في هذا البلاء المعجبون بإفراط فلا يفطنون لغلط كاتبهم، والمبغضون بشدّة فلا يفهمون رأي بغيضهم، والتَّوسط المتوازن خير كله، وقليل فاعله. ويربط هذا الرَّجل بين الكتابة والخيال، والعلاقة بينهما وثيقة، فمن ضمر خياله، ضعف إبداعه، ولذلك فالكاتب العظيم لديه هو حكّاء، ومعلّم، وساحر.
ويدافع ماريو بارغاس يوسا عن المفردات، والكلمات المكتوبة، كي يحمي المجتمع طريقة تواصله الرّئيسة، خاصّة في عصر الصّورة المتعاظمة، والميل إلى المشافهة التي تقيّد اللغة أحيانًا. والكلمة المكتوبة عنده هي لبُّ الأدب، والأدب قوت الرُّوح المتمردة، وإعلان صريح بعدم الانقياد.
والكتاب أكثر خلودًا من مؤلفه كما يجزم جوزيف بوردسكي، وهذا الخلود يجعل قلم الكاتب في حركة دائمة دائبة لا تتوقف. ويعلي جوزيف من شأن الكتابة النَّقدية، لدرجة أنَّ بعض عروض الكتب تغني عن قراءة الأصل. ويخفِّف من صدمة الكاتب حين يقرأ شيئًا من الهراء؛ فذاك أمر لا مفر منه، ومن لطيف مقترحاته أن يكتب كلُّ مؤلف عمره حين صنَّف كتابه، ويضعه في مكان بارز مجاور لاسمه.
ويتغير كلُّ شيء عندما نبدأ بالقراءة كما يروي نيل جايمان، ولذلك يحثُّ على تعليم الأجيال فن القراءة، وطلبًا للإبداع يوصي بقراءة كتب الخيال العلمي للأطفال، فكلُّ شيء قائم الآن كان خيالًا فيما مضى. ويؤكد على أنَّ المكتبة موئل للحرية، والتَّعليم، والتَّرفيه، وليس بكثير عليها هذه الأوصاف؛ فهي جنَّة الأرض. ويختم بالدَّعوة لمقاطعة أيّ سياسي لا يحمي المعرفة ولا يؤيد الثَّقافة؛ طبعًا هذا في ثقافتهم القائمة على الانتخاب، ويمكن تحويرها في العالم الثَّالث بمدح أيّ سياسي تأمن الثَّقافة وأهلها بوائقه وشروره!
وآخر مقالة مترجمة للمثقف الكوني الكبير ألبرتو مانغويل، وسبق لي استعراض عدَّة كتب له في غير ما مقالة، ويصف مانغويل نفسه بأنَّه قارئ يستطيع الكتابة، وهو بذلك يعلي من شأن القارئ المهضوم قياسًا بالكاتب، ويلمح أنَّه لا جدوى من أيّ كتابة لم تسبق بقراءة وقراءات.
ويخبرنا مانغويل أنَّ كلّ قارئ يصنع تناغمه الخاصّ مع الكتاب، وأنَّ الكتاب، والمكتبة، والقراءة، وطن وهويّة، وهي أشياء تثري المجتمعات، وتزيدها انفتاحًا. ويثني على فضل مربيته التي علّمته الألمانيّة والإنكليزيّة قبل أن يجيد لغته الإسبانيّة الأم، كما يذكر باعتزاز تجربته مع الشَّاعر العالمي الكبير بورخيس، وله كتاب عن سنواته القصيرة معه، وقد كتبت عنه فيما مضى.
وببراعة، جعل المترجم في الختام مسكه الفوّاح، بكلمة قصيرة لبورخيس، الذي يستهجن مصطلح “القراءة الإلزامية”، ويرى أنَّ كلمتيه تتعارضان، وإحداهما تلغي الأخرى، ويوصي هذا المثقف الكبير بهجران أيِّ كتاب لم يعجب من يقرأه، أو لم يستطع فهمه، فهو كتاب لم يؤلف لهذا القارئ؛ فالقراءة يجب أن تكون فرحًا خالصًا، من أجل الحصول على المتعة الجالبة للسَّعادة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
الأربعاء 26 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1439
14 من شهر مارس عام 2018م
2 Comments
مقالة جديرة بالقراءة للقارئ لما تحويها من فوائد وتاثير ايجابي في حياة القارئ المدمن حين ينتقي ما يقرا . وفقك الله لما يحب ويرضى