شغف بلا تلف!
البخل مذَّمّة لأهله، لكنَّ البخل بالوقت عن أن يُصرف في غير ما نفع منقبة، والبخل بالعرض عن أن تدّنسه التُّهم فضيلة، والبخل بالتّاريخ الشّخصي عن أن تشينه مواقف مسيئة حكمة، والبخل بالمروءة عن أن تُثلم مكرمة؛ وهكذا، فليس البخل شرّاً كلّه.
وأعترف أنّي بخيل بوقتي، ولا أحب تشتيته في غير ما طائل، ويكفي ما ضاع منه، ولا مزيد على ما يأخذه منّا عنوة زحام الطّرق، وضرورات الحياة، وغوائل مواقع التّواصل، مع أنّي -والحمد لله- مبتوت الصّلة أو ضعيفها مع أكثرها، من أصفر، وأحمر، وأخضر، وأزرق، وما قد يأتي من ألوان أخرى.
وحين تسنح الفرصة للحديث مع عقول شبابيّة نيّرة، فتلك غنيمة مباركة، يستفيد منها كافة الأطراف، خاصّة إذا صار اللقاء نقاشًا بين أطراف بحثت الأمر، وقرأت عنه، ورغبت في إكمال ثغراته، وتسديد نواقصه، وهو ما كان حين دعاني قلّة كريمة من الشّباب، للحوار عن الشّغف المعرفي.
والشّغف ينمّ عن ارتباط قلبي كبير لدرجة الملاصقة، وإذا ابتلي البعض بشغف لا ينفع في عاجلة أو آجلة، ولا يجلب خيرًا في الحال أو المآل، فالحمدلله حمدًا كثيرًا طيّبًا على اختصاصه بعض عباده بعلم نافع، وعمل صالح، وأثر خالد، وما أكثر المساحات المباركة التي تنادي علَّ شغوفًا يحلُّ بها.
ويستطيع المرء أن يستجلي مكامن شغفه، بملاحظة انجذابه للشّيء، وتعلّقه به، وتلّذذه بخبره، وانتفاء الملل من تكراره، ونسيان الوقت في حضرته، وترك غيره لأجله، وبذل المال في سبيله، ومحبته لمن يشترك معه فيه، والانسجام في أماكنه، وإنّها لخسارة جسيمة أن تذهب هذه الخصائص لأمر تافه، أو لا يؤبه له، وعلى كلِّ إنسان ملاحظة شغفه؛ كي لا يكون جهاده في غير عدو!
وللشّغف تبعات يمكن دفعها، أو تحجيمها، فمنها ترك الأولى أحيانًا، فقد يُشغف الإنسان بأمر فاضل، بينما واجب الوقت، أو مقتضى الحال، أو ضرورات المكان، تستلزم غيره؛ ولذلك كان من مداخل الشّيطان -أعاذنا الله منه- على الصّالحين أن يغمرهم في عمل مفضول؛ لينصرفوا عن الأفضل.
ومن سلبيّات الشّغف أن يكون الإنسان مسكونًا بما شُغف به، محتقرًا لاهتمامات الآخرين، أو مستنقصًا لها، ومن فقه الإمام مالك قوله لمن أنكر عليه الانشغال بالعلم عن الجهاد ما معناه: كلانا على خير قد فُتحت له أبوابه، ومنها أن تكون تفسيرات المرء مرتبطة بشغفه مع ظهور اعتسافها أحيانًا؛ كمن ينسب كلَّ بلاء لمن يبغضهم مثلًا.
وقد يقود الشّغف أحيانًا إلى خلاف ثمرته الأصليّة، فيكون سببًا للتّعاسة، ومصدرًا للشّقاء، وهو جدير بأن يكون طريقًا للسّعادة، وسبيلًا للبهجة، والسّبب يعود إلى انهماك الشّغوف بشيء واحد، وغفلته عن باقي مكونات الصّورة، فيرتبط فرحه، وحزنه، وخوفه، ومشاعره، وأفقه، بعامل واحد فقط، وبالتّالي تغدو العوارض كارثيّةً عليه إذا نالت من شغفه.
ومن آفات الشّغف الاكتفاء به دونما عمل، أو أثر، وقد هتف العلم بالعمل؛ فإن أجابه وإلا ارتحل، والتّجارب تعلّمنا أنّه لا قيمة للعلم بلا موقف صدق، ولا فائدة للمعرفة دونما تأثير خالد، ويمكن للواحد أن يكتنز معلومات كثيرة، ويحفظ كتبًا تملأ قبّة الصّخرة، وفي النّهاية لا يزيد حاله عن نسخة زائدة من أيّ كتاب.
وكي لا يكون الشّغف ترفًا يتلّهى به الإنسان، ويشاغل به نفسه عن بلوغ معالي الأمور، فلا مناص من مراجعة الواقع، وقياس مدى الأثر، فهل أسهم هذا الشّغف في نفع متعدٍّ للآخرين؟ وما موقعه من الوعي؟ وهل جعل العقل والرّوح في حال تصالح وتخادم؟ وأيّ إيجابيّة عاد بها شغفنا على أهلينا، ومجتمعنا، وبلادنا، وأمتنا؟
وعليه، فمن التّوسط المحمود، والتّوازن المطلوب، أن يعالج كلّ واحد منّا شغفه، وينوعه، ويمكن أن يغيّره تبعًا لمقتضيات لمصلحة، وليس صعبًا أن يشغف المرء بأكثر من شيء في وقت واحد، والأمر الأساسيّ ألّا نجعل من شغفنا كلفًا مثل ولَه الصّبيان بما يحبون، وألّا نمرض قلوبنا ونشغلها بالسّعي لإتلاف اهتمامات الآخرين، والميدان مفتوح لتمازج الهوايات والاهتمامات، ولن يعلو إلّا ما يستحق العلو.
ومن مفردات النّفع بالشّغف، نشره بين النّاس، وتحبيبهم له، فأفضل من سوق المعلومات كتلة واحدة، عرضها بطريقة جذّابة، في توقيت مناسب، مع تجلية وبيان، وربطها بالعمل والأثر، والتّركيز على الفكرة فيها، وحمايتها من زغل الرّأي، وزلل القول، وخطل الفعل، وهكذا يمضي الشغوفون بالمعرفة وسط الآخرين، حملة مشاعل، ووعاة أفكار، ودعاة لما ينفع النّاس ويمكث في الأرض.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرّياض
الثّلاثاء 25 من شهرِ رجب عام 1439
13 من شهر مارس عام 2018م
11 Comments