عرض كتاب لغة وأدب

ذبابة تصنع وزيرًا!

ذبابة تصنع وزيرًا!

قبل تسع سنوات تقريبًا، دعاني ثري مثقَّف لوليمة عشاء مختصرة، وكان اللقاء عامرًا بالثَّقافة، والتَّاريخ، والطَّعام، والشَّاي بأنواعه، وفي نهاية الجلسة أهداني مضيفي مجموعة من الكتب، وكتابنا اليوم أحدها، وقال لي: هذا الكتاب طريف جدًا، وسيمتعك.

والحقيقة أنَّنا نقصِّر على أنفسنا أحيانًا بالقراءة الماتعة، وهي ضرورية ولو بين فينة وأختها، ولذلك ظلَّ الكتاب بعيدًا عني، حتى اصطحبته معي آنفًا في رحلة دوليَّة قصيرة، وكتب السَّفر لا بدَّ من انتقائها بعناية، حيث أطربني الكتاب وأمتعني، وجعلني أبتسم غير مرَّة، وأضحك من أعماقي.

عنوان هذا الكتاب: مواقف محرجة: ذكريات طريفة، تأليف د.عبد الله دحلان، ويبلغ عدد صفحات طبعته الثَّانية الصَّادرة عام 1430=2009م عن دار المرسى للنّشر والتّوزيع والدِّعاية والإعلان (175) صفحة من القطع المتوسط، ويتألف من مقدِّمة الطَّبعة الثَّانية بقلم النَّاشر، ومقدِّمة الطَّبعة الأولى بقلم الأديب عبد الله مناَّع، ثم ثلاثة أقسام للمواقف في الحياة العامة، والاجتماعيّة، والسِّياسيّة والاقتصاديّة، فالفهرس.

والمؤلف أستاذ جامعي في تخصّص الاقتصاد الذي يصبغ أهله بالجدِّية، وهو كاتب اقتصادي، ورجل أعمال، وتولى أمانة الغرفة التِّجارية في جدَّة، وقبل ذلك كلِّه، فهو سليل أسرة علميّة، تعود بنسبها إلى سيدِّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومما أجمع عليه كاتبا المقدِّمتين أنَّ المؤلف جاد في شخصيته، صارم في مقالاته الاقتصادية، ولذلك قد يعجب من لا يعرفه عن قرب من هذا النَّفَس الضَّاحك في سردياته، وعندي أنَّ هذا التَّنوع من البركات المكيّة على أهلها.

فمن حكايات الكتاب الماتعة، قصّة زميل الكاتب، الذي عمل معه في المطار خلال دراستهم الجامعيّة، وتمنّى أن يركب الطَّائرة يومًا في حياته، وبالفعل تسلّل إلى طائرة مع فريق النَّظافة، واختفى في دورة المياه، وحين تحركت الطَّائرة وطارت، خرج ليكتشف أنَّه الرَّاكب الوحيد مع طاقمها؛ لأنَّها عائدة إلى أندونيسيا بعد توصيل الحجَّاج؛ ثم كان ما كان من تداخلات أمنية، ودبلوماسية، وإدارية.

وقصص الطَّائرات والسَّفر في كتاب د.دحلان كثيرة ومتنوعة، فمنها خبر أول رحلة لأمريكا، وماذا حدث له ولعروسه في لندن؛ وسفر حماته الأول لأمريكا كي تساند ابنتها في نفاسها، وضياعها في مطارات أمريكا، ومن أعجبها سفره من الفلبين إلى هونج كونج بجواز سفر رفيقه ذي الأصول الأفريقية، وقد نجا من هذه الورطة بأعجوبة.

أيضًا من القصص، ما رواه عن صاحبه الأكاديمي البخيل، حيث سافرا معًا إلى الرِّياض، وبعد حضورهما وليمة عامرة بالطَّبخ النَّجدي الشَّعبي، قفلا إلى جدَّة على الدَّرجة الأولى، وبعد ربع ساعة من الإقلاع؛ تذَّمر ركاب هذه الدَّرجة المريحة العاطرة، من رائحة منتشرة تشبه رائحة المجاري-أجلَّكم الله-، ولم تجدِ لرفعها أو دفعها العطور الإضافية، ولا استخدام اللثِّام، وكان رفيق المؤلف أكثر الرُّكاب تضايقًا وانفعالًا.

وظلت الرَّائحة الكريهة تلاحقهم ساعة ونصف في الطَّائرة، ثمَّ في حافلة المطار-عجَّل الله بخلاص مطار جدَّة منها-، وصاحبتهم في صالة القدوم، والغريب أنَّها كانت ثالثة كاتبنا وزميله في السِّيارة الخاصَّة، وحينها قال دحلان لصاحبه: الرَّائحة ليست مني، فهي منك حتمًا! وبعد عراك لفظي أقرَّ الأكاديمي أنَّها منه، حيث أصيب بإسهال شديد لم يمهله حتى يذهب لحمَّام الطَّائرة، وحين تمكن من دخول الحمَّام، أخرج ملابسه الدَّاخلية الملوَّثة، ووضعها في حقيبته؛ حيث عزَّ عليه رميها وهي بعشرة ريالات!!

وتكاد أن تكون الواقعة الآتية أغرب موقف في الكتاب، ففي دولة خليجية، دلف المهندس الشَّاب إلى مكتب الوزير لارتباطه به مباشرة، فوجد المهندس وزيره غارقًا في بحر مكالمة عاطفيّة لدرجة الاسترخاء؛ فهمَّ بالخروج لكنَّ الوزير استبقاه بإشارة من يده.

وخلال المكالمة الرُّومانسية، تسلَّطت ذبابة على الوزير وأفسدت أجواءه، فكتب ورقة للمهندس فحواها: خلّصني من الذُّبابة وستصبح نائبي! فطاردها المهندس كمن به مسٌّ حتى قضى عليها، ووضعها صريعة على كفه، وأطلع معاليه عليها، وبعد شهرين صدر للمهندس قرار بتعيينه نائبًا للوزير!

كذلك من حوادث الكتاب، مصيبة وقوع الفأر في صحن الرُّز، وكيف ألتهمه مضيفهم ليخفي الفضيحة، والمزحة التي جعلت صاحب المؤلف يتزوج زوجة رابعة، وشكوك زوجة المؤلف بأنَّه متزوج بالسِّر بسبب كلمة من خاطبة أخطأت في المنزل، أو لوجود ملابس نسائية في حقيبة سفره؛ نتيجة غلط فادح من مغسلة الفندق، وقد سلِم الكاتب من عاقبة هذه الأحوال المحرجة، وإن أضطر في واحدة منها للبيات في فندق! وهو يحمد الله أنَّ زوجه لم تعلم بزواجه على الورق في مصر إلا بعد أن نشر تفاصيل الزَّواج بالخطأ في كتابه.

ومواقف الزَّواج الطَّريفة في كتاب د. دحلان كثيرة، فمنها زواج تحول إلى خصام بسبب تأخر هدية، وحضوره زواجًا في كنيسة ليتفاجأ بصورته مع العروس على صدر الصَّفحة الأولى لأشهر صحيفة في ذلك البلد، وكان حينها عضوًا في مجلس الشُّورى يمنع عليه الاقتران بغير سعودية، فضلًا عمَّا سيصيبه من زوجه الفاضلة لو بلغتها الصَّورة؛ والحمد لله أن لم تصل إليها. ومن كثرة حكايات الزَّواج، وحرجها البالغ، يكاد أن يحجم القارئ عن أي مشاركة في شؤون الزَّواج لا خطبة، ولا شهادةً، ولا حضورًا، ولا مزاحًا!

بيد أنَّ القصَّة الأعجب في روايات الكاتب عن الزَّواج والعرس، كانت لصاحبه الذي لم يجد من تقبل به زوجًا، لمنظره الخالي من الجمال، والشبيه بقرود الشُّمبانزي، ولسمنته المفرطة؛ ولذلك استعار هذا المسكين صورة صاحبه الوضيء، وأرسلها لعنوان فتاة تركيّة وجده في مجلة للزَّواج، وبعد القبول والإجراءات الرَّسميّة، فوَّض العريس صديقًا له كي ينوب عنه في عقد القران؛ إمعانًا في إخفاء صورته المرعبة!

وحين وصلت العروس لجدَّة تفاجأت من منظر زوجها، بينما هاله جمالها مع أنَّها عرجاء، وكان من حكمة الله ولطفه أن آلف بينهما، وجعل المودة في قلبيهما، فأنجبا خمسة أولاد نجباء: مهندس، وطيَّار، وثلاثة أطباء، وسادستهم بنت بارعة الجمال، تقاطر الخطَّاب عليها وهي في سنوات الجامعة الأولى.

ثم روى المؤلف بعد ذلك كيف حصل على موافقة رسميّة من وزارة الداخليّة للزَّواج بغير سعودية، حيث تعسَّر الدُّخول على وزير الداخليّة حينذاك الأمير فهد-الملك فيما بعد-، وحين استطاع المؤلف مقابلة الوزير ومعه طلب الإذن بالزَّواج، واجهه الأمير بالتَّوبيخ على ترك المواطنات، ومزَّق الطَّلب، وبصعوبة بالغة، وافق الوزير على دخول الزَّوج لمكتبه؛ بيد أنَّه تفاجأ أنَّ طالب الموافقة لا يمكنه الولوج إلا بفتح باب المكتب على مصراعيه، ثمَّ قال دحلان لفهد: مَنْ من بنات بلدك ترضى أن تتزوج هذا الشُّمبانزي؟! فلم يتمالك أبو فيصل نفسه من الضّحك، ومنحه الموافقة، وأمر السَّفارة في لندن بالمساعدة التَّامة، وأعطى للعريس هديّة ماليّة، وتذاكر سفر.

كما يوجد في قسم السِّياسة والأعمال، قصص جميلة، منها احتجازه نصف يوم بسبب استجابته لإلحاح التَّبول عليه، وزيارته لبلد أفريقي عربي-ليبيا أو تونس غالبًا-، وموافقته على المشاركة في برنامج حواري اقتصادي، وقبل البَّث أخذ يتحدث مع رفيقه عن ويلات العسكر وفسادهم وإفسادهم، وضربا مثلًا بالبلد الذي هم فيه، ثم تفاجأ صاحبنا بأنَّ حوارهما العفوي منقول على الهواء مباشرة، ولولا فضل الله، ثمَّ تدَّخل السَّفارة الفرنسية؛ لحدث مالا يحمد عقباه.

ومن الحكايات الملتبسة، أنَّ صاحبًا له لامه بغير حقٍّ، بلغة فيها استخفاف وأشعار هجاء، وكان يخاطبه بمعالي الوزير، وترك دحلان الرِّسالة المقذعة على مكتبه، فأخطأ السّكرتير وأرسل هذه الرِّسالة لوزير بينه وبين المؤلف مكاتبات، فثارت بينهما معركة غير مقصودة؛ فمن سيقنع الوزير بأنَّ الرِّسالة التي أغضبته ليست مكتوبة له؛ بل للمرسِل، وأنَّها اختلطت مع الكتاب الأنيق الذي كان مخصّصًا له؟!

ومن طريف المواقف ومحرجها، أنَّه شارك وزوجته دونما قصد في مظاهرة بتايوان، وظهرت صورتهما على الشَّاشات والصُّحف، مما جعل حكومة تايوان تعتبره شخصًا غير مرغوب فيه، بعد أن كان ضيفًا، وتجبره على دفع فواتير الضِّيافة! ومنها موقفه وموقف عبد الله الدَّباغ مع وزير يهودي في منتدى دافوس، وكان الحديث مع وزراء اليهود حينها جريمة!

أما أغرب الرِّوايات فهي أنَّه أضطر لإجراء عملية توسيع شرايين، ودخل العناية المركزة في مشفى حكومي شهير، وأرادت الممرضة تطمينه، ففتحت السِّتارة التي بينه وبين رجل أجرى عملية ناجحة في قلبه، فحدَّثه الرَّجل عن سهولة الأمر، وحثَّه على المضي بالعملية، وبعد برهة سمع جلبة وأصواتًا ليكتشف أنَّ جاره الآنف ذكره قد مات! فأزال د.عبد الله دحلان الأسلاك الطبيّة، وارتدى ملابسه، وهرب من المستشفى إلى جنيف ليجري العملية هناك، أدام الله عليه الصِّحة والعافية.

وأتمنى أن يجد القارئ نسخة من الكتاب؛ ليبهج نفسه بقراءة المواقف كلِّها كاملة، وليت أن أصحاب المواقف الحياتيّة ذات العبرة، أو الطَّرافة، أن يتحفونا بها، فهي جزء من سيرتهم، ولا تخلو من واجب يؤدونه للأجيال والمجتمع؛ ففيها فوائد متعددة، وعبر كثيرة، وقد تكون من الأجر البّاقي.

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرّياض

ahmalassaf@

الإثنين 03 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1439

19 من شهر فبراير عام 2018م 

 

Please follow and like us:

4 Comments

  1. شكرا لنقلك المتعة
    فعلا كتاب جميل بمواقفه
    يحرك اشياء بداخل النفس
    يشجع الخائف ويعزي المتورط
    ويلهم اصحاب الاسرار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)