القانوني بمعناه الواسع، ومدى عمله العريض، من أحوج أرباب المهن إلى اللغة؛ لأنها عنده فوق كونها وعاء فكر، وشعار هوية، ووسيلة تواصل حياتية، تمثل أداته الأهم في صنعته الباهرة متحدثًا، أو مترافعًا، أو كاتبًا، أو مراجعًا، أو معلمًا. هذه هي أحواله الدائمة مع اللغة التي لا ينفك عنها في عمله الرفيع شأنه، الخطير أثره، العامة حوائج الآخرين إليه لدرجة تبلغ حد الضرورة أحيانًا.
لأجل ذلك؛ فلا مناص من الكتابة حول هذا الموضوع، والاستمرار فيه نفعًا للنفس، وللآخرين، حتى لو سبقت الكتابة مرارًا عن موضوعات عدة تتعلق بالصياغة، ولغة القانوني، وتفسير النص، وعسى أن يكون هذا المقال جامعًا لما تفرق من أصول في هذا الباب، وبداية لما يعقبه من توضيح وتوسيع.
لغة القانوني:
هي أداة التواصل بين عقل القانوني -أيًا كانت منصته وموقعه العملي- وبين محيطه في المجال القانوني على اختلافه: التشريعي، والقضائي، والفقهي، والتعليمي، والإداري، والإعلامي، والمجتمعي. تظهر هذه اللغة في البيان الصادر عن القانوني كتابة أو مشافهة، عبر الحديث والحوار والإلقاء، أو في إعداد مشروعات الأنظمة ثمّ صياغتها أو تفسيرها، وبناء مذكرات الدفاع، وسك صكوك الدعاوى، وإصدار الأحكام القضائية، وحبك المذكرات التفسيرية، وكتابة قرارات الإدارة، وتحبير المنشورات الإعلامية، وإلقاء المحاضرات، والمشاركة في الندوات، وتقديم أوراق العمل.
هذه الأحوال جميعها تتطلب من القانوني عقلًا منضبطًا، ولسانًا مبينًا، وقبل ذلك بصيرة ثاقبة، ونظرًا نافذًا إلى مقاصد النص وروحه، ومعرفة بمقتضيات الحال، ومحققات المصلحة العامة والعليا، وإشاعة الفهم والوضوح، وسبل الوصول إلى العدل، فالعدل هو المطلب الأسمى للقانوني أينما توجه.
أهمية لغة القانوني:
إن التكوين اللغوي الصحيح للقانوني أحد أسباب تحقيق العدل وإنجازه، وتقليل الاختلاف في فهم النصوص، والحدّ من التنازع في العقود، بل هي سبب في الوقاية والتحصين قبل البحث عن وسائل علاج وتفسير. إن تفوق القانوني في اللغة عامل جذب له، وسبب لتفضيله من قبل طالبي الخدمة أو التوظيف.
وما ذاك إلّا لأن القانوني يستخدم اللغة كل حين في أعماله التي لا تخرج عن المكاتبة أو المشافهة، ولذا وجب عليه إيلاء هذا الأمر عنايته الفائقة؛ فلا أضعف من قانوني لا يبين عن مكنون النفس، ولا أحرج من خطأ فادح أو فاحش في نص ينتسب لقانوني، أو يصدر عنه. إن اللغة من أبرز الدلائل على صاحبها في ذوقه، وأناقته، وعلمه، وذكائه.
خصائص لغة القانوني:
- الوضوح والدقة: فالغموض قد يهدم الحجة، واللبس ربما فتح للخصومة بابًا، والوضوح والدقة مما يؤدي إلى البيان، والبيان هو مراد التواصل الأعظم، وبانعدامه تكون اللغة قاصرة أو مخفقة. من أساسيات الوضوح المباشرة في اللفظ المؤدي إلى المعنى دون مجاز، ولا تورية أو كناية.
- استعمال المصطلحات: من الدقة والوضوح استعمال المصطلحات الثابتة في العلم، أو الواردة في الأنظمة واللوائح؛ لأن لغة القانوني متخصصة من ناحية، وعامة من ناحية أخرى. هذه المصطلحات تعارف المشتغلون في القانون على معناها، وبالتالي فهي تختصر المقصود، وتحول دون الاجتهاد والشقاق.
- الترتيب المنطقي: الحجة القانونية تشبه المسألة الرياضية، لها مقدّمات واضحة تقود لاستنتاجات منضبطة، ومتى غاب المنطق عن لغة القانوني كثرت فيه الثغرات التي ينفذ منها الخصوم. إن القانوني الحاذق لا يعاكس المنطق ولا يصادمه إلّا بما هو أقوى إن وجد.
- سلاسة الانتقال: أي التنقل داخل المسألة الواحدة من فقرة لأخرى، ومن عنوان لما يليه، أو الانتقال من مسألة إلى أخرى. هذه السلاسة تدل على فهم كبير للموضوع، وإحاطة كافية لجوانبه، كما أنها دليل على عقل متماسك، وأداء لغوي لا يركن إلى زخرفة الألفاظ بل إلى رصانة المعنى.
- السلامة النحوية واللغوية والأسلوبية والإملائية: هذا المطلب مهم للغاية، نظرًا لأثره في معنى الكلام، وجماله، وتأثيره في القبول والفهم. هو مطلب يتحقق بالتدريج، ومزيد المران، وكثير الاطلاع، وله أقسام أساسية وأخرى ثانوية يمكن التجاوز عنها، ولهذه الخصيصة حديث آخر أكثر تفصيلًا في المستقبل بحول الله وعونه.
- التوازن بين القانون والواقع: النصّ القانوني متفاعل مع الواقع ويشعر به دون إهمال كلي، أو إعمال تام يلتغي به القانون، فلا يغفَل القانوني عما يحيط بالواقع من سياق وأحوال ومتغيرات، ولا يُغفله.
- الأسلوب الرسمي: تتميز اللغة القانونية بأسلوب رسمي وجاد، فهي لغة تخلو من أي شيء ممجوج لفظًا أو معنى أو سياقًا، وتترك بعض المتعارف عليه في لغة غير القانونيين حتى لو كان مطلوبًا أو آسرًا.
- الاستناد إلى النظام والمبادئ والسوابق القانونية: تعتمد لغة القانوني على أنظمة مرعية، ومبادئ راسخة، وسوابق سالفة، ومصادر قانونية موثوقة. غاية هذا الاعتماد دعم الحجج والآراء، وإقناع القارئ والسامع.
- الحياد والموضوعية: فهي لغة تنطلق من النصوص والسوابق، ومن التحليل والتفسير، وتبتعد عن الآراء الشخصية المحضة، وعن الانفعال اللحظي أو العابر.
- لغة وظيفية: لغة القانوني ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لتحقيق غرض عملي، فيه شرح وتوضيح، أو يمنع وقوع الخلل، ويصلح آثار الزلل، ويساعد على فضّ النزاع إن وقع، ويطمئن الكافة على ثبات الحق، وفشو العدل.
كيف يرتقي القانوني بلغته:
- البناء على الحصيلة السابقة التي نالها في المدارس والجامعات، أو بالقراءة والسماع، فمن خلاف الحكمة هجر ما مضى ولو كان قليلًا.
- حضور الجلسات والمناقشات العلمية والمرافعات والبرامج التدريبية والندوات، أو قراءة محاضرها، والاستماع إل تسجيلاتها.
- قراءة الأحكام باختلاف درجاتها، والنظر في الأنظمة واللوائح والقرارات العرائض والمذكرات والعقود والشروح والكتب، وتتبع القديم منها لرقي لغته في الغالب. إن كثرة الاطلاع على الأعمال القانونية المتقنة حاسمة نافعة؛ فالعقل القانوني ينضج بالاحتكاك، ويكتسب حسن الصياغة وكمال الأداء من المتابعة اللصيقة، والقرب الذي لا ينقطع.
- تكوين مكتبة خاصة فيها مراجع لغوية وقانونية وأخرى في لغة القانون، وإدامة النهل منها.
- الاغتراف من علوم مساندة للقانوني مثل النحو والصرف والبلاغة لضمان سلامة اللغة، والتجويد لضبط مخارج الحروف، والمنطق لضبط منهجية التفكير والحجاج.
- الإقبال على القرآن الكريم، ثمّ السنة النبوية المطهرة، ففيهما جوامع كلم واختصار معجز، وبلاغة وفصاحة لا تدانى، مع تناسق تام في المعنى والمبنى.
- القراءة في كتب اللغة والأدب؛ فأي ضعف لغوي في تكوين القانوني سينعكس على مضمون خطابه وكتابه.
- التدريب على الاختصار دون تقصير: فالإطالة تضعف الحجّة وتجلب الملل، والاختصار المفرط يُخلّ بالبيان ولوازم المعنى.
- المراجعة والمذاكرة مع الأقران: ينبغي للقانوني أن يعرض ما كتب على من يثق برأيه، فما كان من صواب اعتمده، وما كان من ضعف أصلحه وأقامه على سنن قويم.
- التدريب الدائم على الكتابة والإلقاء والحوار والأداء المسرحي الرزين، وهذا يستلزم أن تتفاعل الجوارح كلها مع قلب القانوني وعقله.
كيف تصبح لغة القانوني عميقة ومقنعة:
- التخطيط المسبق: بتحديد الهدف، والجمهور المستهدف، ومعرفة السائد من أوضاع، وما يلزم مراعاته.
- البحث الحقيقي: بجمع المعلومات من مصادر قانونية موثوقة، وتقليب أوجه النظر فيها، والحذر من الاعتماد المطلق على آخرين من البشر أو الذكاء الاصطناعي.
- التنظيم المنطقي: أي ترتيب المعلومات منطقيًا، والاستعانة بعناوين فرعية للحفاظ على اهتمام السامع والقارئ.
- المراجعة والتدقيق: إن مراجعة النص قبل الدفع به مرحلة مهمة جدًا؛ سواء أكان إظهار النص عبر الكتابة أو الحديث. هذه المراجعة قد تكون فردية أو ثنائية أو جماعية، ومن المهم أن يعي القانوني أن حقيقة النص اللغوي لا تتجلّى إلّا بعد المراجعة وإعادة كتابته مرة أخرى على الأغلب. هذه المراجعة تشمل اللفظ، والمعنى، وتفتش في الجوانب المحيطة بالنص كافة ما ظهر منها وما بطن.
- الاستفادة من الأدوات المساعدة: استخدم أدوات التدقيق اللغوي للارتقاء بجودة النص.
- إعمال الأدوات الذكية: مثل التكرار المدروس، التضمين للشواهد، جمع البلاغة مع الدقة، الالتزام بالأدب وتوقير الآخرين والمخالفين.
- التأكد من خلو النص من الإشكالات والمحاذير: فلا إطالة، ولا حشو، ولا غموض، ولا اختصار مريب، ولا تناقض.
محاذير يتحاشاها القانوني في لغته:
- التناقض: هو شر آفة تصيب النص، وترد هذه الآفة من الغموض، أو من الإسهاب أو الاقتضاب – والاقتضاب لا يعني الاختصار بمعناه السليم-. كما يصيب هذا البلاء النص إذا لم يراجع بيقظة وأمانة، أو أسس بدون منهجية متسقة.
- الإنشاء الخطابي: النص القانوني ليس موضعًا للزخرفة وترف البلاغة، ومن وقع في ذلك فسيصاب نصه بالترهل والتهويل، ومن المحتمل شبه اليقيني أن لباب المسألة سيضيع في زحام الكلمات.
- المبالغة في التحليل دون طائل: الأصل في النص القانوني أن تكون كلماته محسوبة مثل مفردات البرقية؛ فكل ما يمكن حذفه دون إخلال فيجب حذفه دون أن نكثر عليه التأسفا؛ بل وبلا شعور بالذنب البتة!
- التعريض بأطراف الخصومة: للخصومة شرف، وللأطراف الأخرى حقوق، وللنظام العام واجبات، والتنبه لها في النص القانوني فطنة وأدب.
- النقل بلا فهم: لا يشير القانوني إلى نص آخر وهو لم يستوعب مغزاه؛ وإن فعل فقد تعجل السقوط!
- الغموض: باستخدام عبارات غير محددة، أو مصطلحات غير دقيقة، أو أي سياق يمكن أن يؤدي إلى سوء الفهم.
- الإفراط في استخدام اللغة القانونية: هذه اللغة أساسية في النص القانوني، شريطة ألّا تكون معتسفة، أو مرهقة للأذهان.
- الافتقار إلى التنظيم: لو كان النص عظيمًا بيد أنه محروم من التنظيم فسوف يفقد مزاياه، ويتغلب عليه أي نص منظم ولو كان أقل مرتبة منه.
- الأخطاء النحوية والإملائية واللغوية والأسلوبية: وهذه يمكن تلافيها بعدة وسائل.
- تباين معاني المصطلحات: أي استخدام المصطلح لواحد في النص الواحد لأكثر من معنى.
- الإفراط: سواء في التكرار، أو سرد الحجج، أو النقل، أو طول الجمل.
- إغفال الواقع: لا بد من إمضاء العمل في النص القانوني حسب مقتضى الحال وما جرت به العوائد الصحيحة والأعراف المتبعة.
- غياب النمط: على القانوني الحاذق أن يحرص على بناء نمط خاص به، وأسلوب يعرف به، وهذه المنزلة رفيعة، لكنها غير مستحيلة، ومن سار على أول الدرب ببصيرة، بلغ منتهاه كما يحب.
إن لغة القانوني ليست مجرد سكبٍ للألفاظ، أو نظمٍ للعبارات في قوالب جامدة؛ بل هي صنعة دقيقة مشبعة بالحركة والحياة، تستمد جلالها من موقعها في خدمة العدالة، وتستقي سموها من انضباطها بالشريعة ثم المنطق واللغة. إنها لغة لا تعرف العبث، ولا ترضى بالزيف، ولا تقبل التهويل أو التهوين أو الإهمال؛ فهي ميثاق غليظ بين الكلمة والحق، وبين الحرف والحكمة. هي حياة أو سبب لاستقامة الحياة، هي نجاة أو عامل أساسي من عوامل النجاة، هي فقه عملي، وميزان قسطاس غايته تعظيم الحق وتجليته والدفاع عنه إن بالقلم أو باللسان، من أجل بناء صرح العدل الشامخ في علوه، الراسخ في جذوره، وما التوفيق إلّا من الله رب العالمين.
الرياض- الأحد ثاني أيام التشريق عام 1446
08 من شهر يونيو عام 2025م