رمي الجمرات من واجبات الحج وشعائره، وهي على نوعين تنفرد الكبرى بأحدهما، وتتشارك في الثاني مع أختيها. ويرمي الحجاج جمارهم في أربعة أيام متوالية لمن لم يتعجل. للرمي أحكام وسنن وآداب، ولا يخلو من بدع وخرافات وسوء تنفيذ قد تؤذي بسبب حجم الحصاة، أو طريقة رميها، أو الدخول بطريقة اكتساح خالية من الخشوع. إن الرمي عبادة عظيمة، تنقطع عندها التلبية، ويبدأ معها وبعدها التكبير، وهو فعل يستعد له الحجاج بلقط الجمار، والتأكد من مناسبتها، وتحديد الوقت الأفضل للرمي، وربما اجتهد آخرون في غسلها وتطييبها وحفظها في وعاء، وبعد الرمي ينفتل الحجاج عن الأحواض؛ فمنهم المكبر، ومنهم الداعي، ومهم الذاهل، ومنهم الغارق في التصوير والبث!
ومن أجل الرمي يتحرك الحاج بنفسه قدر المستطاع، وحيدًا أو ضمن مجموعة، بيد أنه سيرمي بيده، فغاية الرمي تعظيم الله وإجلاله، وإتباع الهدي النبوي الشريف، وإراحة النفس بأداء العبادة والتقرب بها، فوق أنها جزء من إكمال المناسك، والتعبّد للمولى في مكان مخصوص، وزمن مخصوص، وأحكام خاصة. ومع أن فعل الرمي مشاهد للكافة، وصورته الخارجية تكاد أن تتشابه؛ إلّا أن ما يعتمل في النفس قبلها وخلالها وبعدها يتباين فيه الحجاج والنساك، ومناظر الحجاج وهم يرمون ومخابرهم متنوعة بين خاشع أو متخشع، وباك، ومتأمل، وتائب، وآخر ساهٍ لاهٍ أولى ما عليه التصوير وحفظ الذكريات.
وفيهم المتأني بالرمي حتى لكأنه مقيم لن يبرح، ومنهم العجلان كما لو كان مطاردًا يخشى أن يدرك، والتوسط بينهما هو الأكثر. يضاف لذلك فيما يرتبط بهذه الشعيرة، أن الرمي عبادة ذات وحدة واحدة لا تقبل التجزئة؛ فلا بد من رمي الجمرات كلها حسب السنة، ولا يجزئ الرمي بعدد ناقص عن السبع لكل جمرة على خلاف بين الفقهاء. وأحكام رمي الجمرات في أيام التشريق واحدة سوى أن الكبرى لا دعاء بعد رميها، وقد سميت الجمرات بهذا الاسم لاجتماع الحصى في مكان واحد، أو لاجتماع الناس حولها.
كذلك الكتابة تأتي على أنواع وأحجام، ويسبقها استعداد وأعمال أخرى مرتبطة بها وتؤدي إليها، وربما استخدم الكتّاب الأدوات نفسها، وسلكوا الطرق ذاتها، ووقفوا أمام صفحة أو شاشة متماثلة مع غيرها، بيد أن المخرج النهائي للعمل الكتابي يختلف في صورته، وطبيعته، وفي أثره على صاحبه، وتأثيره في الآخرين. وقد يبدأ الكاتب عمله ويختمه بسرعة مذهلة، وربما استغرق من الوقت أزيد من غيره.
وكلما همّ الفنان بالكتابة، شعر بأنه على مسافة قريبة من رمي حملٍ أثقله، ولا مناص من رميه وإلقائه عن عاتقه، وهو شعور يلّج على حملة الأقلام بإلحاح حتى لكأنه واجب لا محيد عنه، مثل واجبات الحج، ومنها الرمي الذي لا يجبر تركه بغير دم حلال! والكتابة عمل يجتمع حوله الناس على اختلاف نظرتهم له، مثل اجتماع وفود الموسم الميمون حول أحواض الجمرات. إن الكتابة فعل جسدي في صورته الخارجية، بيد أن له رباطًا روحيًا متينًا، وهذه هي حقيقة الرمي.
فهل الكتابة فعل رمي؟ أم أن رمي الجمرات كتابة من دون أقلام؟! تبدو المسافة بين الحرف والحجر بعيدة بالنظرة العاجلة غير الفاحصة، لكن من يتذوق المعنى الكامن خلف المظاهر، لن يصده هذا البعد عن محاولة اكتشاف العلائق بين عملين وإن بدا ألّا صلة بينهما. ففي لحظات الرمي يكون الحاج صادقًا في مشاعره وصنائعه ونياته، وعند تسطير الكلمات لا ينتقع الكاتب بغير الصدق والإخلاص، وبهذا الصدق يكون القبول والتأثير والخلود، هذا على الأغلب.
إن الفنان الحاذق يكتب لأن الأفكار تتزاحم في ذهنه، والأحاسيس تملأ قلبه، فتغدو الكلمات مثل الحجارة والحصى، والقلم هو اليد التي ترتفع ممسكة الحصاة بين أصبعين مثلما يمسك الكتّاب أقلامهم، والصفحة هي أحواض الجمرات الثلاث، والرمي فعل تعبد، وإزاحة هم، وطرد وسواس، وإغاظة مترصد، وجلب انشراح، وهكذا هي الكتابة وأغراضها السامية على الحال والمآل، فكل نص صادق متقن، يصبح بمنزلة رمية موفقة وقعت على الصواب، وحققت المراد.
وحين يرمي الحاج الجمرات يتناسى كل ماحوله من زمان ومكان وحال وإنسان، ويعيش لحظة مشحونة بما يخصها هي فقط، ومسكونة بما يتعلّق بها دون غيرها، وهو شعور يقترب منه الكاتب إذا شرع في عمل كتابي يخرجه عن الإطار المحيط به، حتى يسكره نصه دونما خمر حرام، وتلك حالة من التماهي والانغماس قلّما تحدث للإنسان إلّا في مواضع محدودة، وأحوال نادرة.
إن رمي الجمرات عبادة مندرجة داخل عبادة أكبر، وهي جزء من أحد أركان الإسلام الخمسة، وهكذا الكتابة التي هي عبادة متى صلحت النيات، وهي جزء من عبادة أعظم فيها نشر العلم والمعرفة، وزيادة الفهم والوعي، وإحكام السيطرة على النفس طردًا للغواية، واستلهامًا للرشد، تمامًا كما يجد الحاج بعد الرمي من سمو نفس، وطهارة روح، وهي أوقات من الروحانية التي يتمنى الحاج الرامي، والكاتب، بقاءها معه طيلة حياته؛ فما ألذها وما أسناها.
ثمّ إنه ليس في الرمي حياد، فلا مفر للحاج من رمي الشاخص، وضمان دخول الحصاة إلى الحوض أو غلبة الظن بذلك، ولا بد فيه من مراعاة الأوقات على سعتها بيد أنها مقصورة على أيام، وهذه من صفات الكتابة الجادة المفيدة، التي لا تقف موقف الحياد والميوعة والضبابية، وإنما ترمي بالكلمة تلو الأخرى، سبعًا وراء سبع، حتى يعلو الحق، ويزهق الباطل، وتندحر الشياطين صغيرها وكبيرها.
ومهما تقدم الناس وتطوروا، أو حتى تقهقروا وتأخروا، فإن عبادة الرمي باقية، ومادتها من الحصى، ومكانها وزمانها معروفان ثابتان، وكذلك الكتابة ستظل عصارة ذهن، تأتي بعد تفكير وقراءة وتقليب للآراء، وتتكون من كلمات وحروف وعلامات ترقيم، ثم تصاغ بتنسيق وترتيب، وتنشر على ورق أو شاشة أو على أي شيء يحفظ ذلكم المنتج البشري، ولو كان حفرًا على جدار، أو غيره مما قد يأتي من منتجات التطور التقني والذكاء الاصطناعي. تقبل الله حجكم، ورميكم، وكتاباتكم!
الرياض- السبت 04 من شهرِ ذي الحجة عام 1446
31 من شهر مايو عام 2025م