سير وأعلام شريعة وقانون

لماذا درست القانون؟

قبل سنوات تزيد عن العشر، ذهبت زائرًا زيارة عمل لإحدى العوائل التجارية، بحضور بضعة من أبنائها، ومعهم رجل من أبناء بلدتهم، عليه سيما الثقافة والفكر مع رزانة وهيبة. وبعد حوار طويل كان أكثره مع الرجل الذي لا ينتمي للعائلة، سألني قائلًا: هل درست القانون؟ فأجبته أن لا! فعلّق بقوله: أكاد ألّا أصدق؛ فطريقة ترتيبك للكلام، ولغتك، تشبه لغة القانونيين! فقلت له: إني أعيش في بيئة يحيطني فيها متخرجون في الشريعة، والسياسة الشرعية، وأصول الفقه، والقانون، ولم أفصّل في غير هذا الأمر مقتصرًا على هذه الإجابة.

هذا الوسط المتخصص فيه رجال ونساء، وآخرون أكبر مني سنًا أو أصغر، مع اختلاف رتبهم العلمية، وتعمقهم في تخصصاتهم. يضاف لذلك أني منذ عشرين عامًا وأنا كثير القراءة في كتب السياسة الشرعية والقانون، وقد قادتني هذه القراءات إلى شيء من الكتابة المستقلة في موضوعاتها، أو عرض بعض كتب هذه العلوم، حتى دعاني أقوام لمشاركتهم في تجمعات علمية ذات اختصاص انتفعت منها ومن معرفتهم؛ فأهل الاختصاص يناقشون القضايا على أصولها، ويشيرون للكتب والمصطلحات وأعلام الفن.

ثمّ شاء الله أن أرتبط بعلاقة طيبة مع بعض أعلام القانون في بلادنا، وأمضيت مدة من الزمن في لقاءات مستمرة مع الشيخ صلاح الحجيلان -رحمه الله-، ومن الطبيعي أن يكون النقاش دائرًا في فلك القانون والمحاماة، وأكثر تلك اللقاءات كانت على انفراد مع أحد أوائل المحامين في بلادنا، وشاركنا في بعضها آخرون من العاملين في الرواق العدلي. بل إن الشيخ أبا حسام استضافني في مكتبه الشهير في الرياض بطريق الأحساء، بحضور بعض أنجاله، وجلّ المحامين العاملين فيه، وكان لقاء جميلًا على طوله، علمًا أن الشيخ صلاح قال لي في ذلكم اليوم: منذ مدة لم أذهب لمكتبي، وكنت أؤدي العمل في مكتبي المنزلي، وإنما أتيت اليوم من أجلك فقط. لقد كانت جلساتي مع شيخ القانونيين وأستاذ المحامين زادًا معرفيًا مع خبرات وتجارب واسعة وصريحة وفريدة.

فاجتمعت هذه المدخلات على اختلافها، حتى دفعتني لدراسة القانون بعد ربع قرن -تقريبًا- من مغادرة مقاعد الدراسة الجامعية، وكان البعض يظن أني سأتوجه للدراسة العليا مباشرة؛ خاصة أنها ميسورة خارج المملكة، وفي جامعات مرموقة، بيد أني فضلت ابتداء الدراسة من جديد؛ فالتغيير الحسن جميل أثره، وهو جمال يظهر على الذهن والمزاج والجسد، وهي فرصة لمزيد من المعارف والعلاقات، وقد كان بحمدالله.

ثمّ زاد في إصراري تلكم الفرحة الكبيرة من الوالدة -رحمها الله- بقرار الدراسة، وليتها اليوم معنا لأرى منها فرحة أخرى بنهاية أول المشوار، وقد وجدت منذ البداية مؤازرة من كثر حولي فيهم أشقاء ومحبون. ولعلّ أن يكون في التخصص السابق والخبرة الماضية ما يعضد تخصصي الجديد؛ فالمجال الصحي بعامة، ومجال الأدوية والصيدلة وشركاتهما  -على وجه الخصوص- لن يستغني عن القانون. وعسى أن يكون العمل الحالي في حقل الأوقاف والعمل المجتمعي والخيري ما يفتح أبوابًا جديدة بعد دراسة الأنظمة والقانون. وليس ببعيد أن يتداخل القانون مع الكتابة والثقافة، خاصة أن لي عناية علمية وعملية بالتدريب على الكتابة والصياغة والتحرير وصناعة المحتوى، والحمدلله.

وقد فتحت لي هذه الدراسة القانونية بابًا إلى الكتابة في تاريخ الأنظمة والقانون والتشريعات، وعرض بعض الكتب والأدلة والمعاجم، والتعريف بسير شخصيات قانونية سعودية وعربية وعالمية، وإبداء الرأي ببعض موضوعات القانون، وهي موضوعات تتداخل مع شؤون كثيرة اجتماعية وتعليمية واقتصادية وغيرها. وأتصور أن المستقبل سيكون حافلًا بالمزيد من الكتابة، وقبلها الكثير من القراءة والحوار القانوني، بفضل من الله وتوفيق وعون مرتجى.

ومن فوائد دراستي هذه أني أثبت باليقين القاطع لأولادي دقة ما كنت أقوله لهم، وخلاصته بأني لم أتغيب عن الدراسة طيلة أيامها إلّا يومًا واحدًا، ولهذا اليوم قصة، ولاحقًا أسرد تفاصيل الحكاية في مقال منفرد بحول المولى. كما أعطيت الذرية درسًا عمليًا في الانضباط والاجتهاد، والتفاعل مع الأساتذة، والتوقير لهم، وهذه الخصال قد عايشوها معي، وبالتالي أصبحت نصائحي لهم مشهود لها بالعملية البريئة من شهوة التنظير فقط، وعلموا أني لم أكن أذكرها لهم لحثهم وتحفيزهم فقط، ورأوا بأم أعينهم مصداق ما قصصته عليهم، وأنه لم يكن خيالًا مثاليًا، علمًا أن ندرة الغياب ليس مزية لي فقط؛ فأكثر الأجيال التي عاصرتها لم تعرف الغياب إلّا لضرورة ملجئة.

لم تكن هذه الدراسة في الجامعة السعودية الإلكترونية يسيرة بما فيها من واجبات واختبارات وتفاعل، وإن لم أواجه معاناة في قراءة المناهج وفهمها؛ لأني أقرأ المناهج باستمتاع في القراءة، واستمتاع بالتعلم، واستمتاع بالتفكير معها، مع اقتراح بعض التعديلات في التحرير والصياغة، إضافة إلى اجتهاد الأساتذة في الشرح والبيان. والحمدلله أن واصلت حتى انتهيت، وعسى أن يكون في هذا المقال جوابًا لسؤال يلقى عليّ عن سبب دراسة القانون بالذات، علمًا أني حضرت مناسبة فاخرة قبل سنتين في قصر أحد الأثرياء، فتفاجئت بمن قصدني مسلّمًا، ومعه كتاب هدية لي، وحين ذكر لي اسمه الذي شاهدته على غلاف الكتاب، عرفت من فوري أنه الرجل الذي قابلني قبل عقد وأزيد عند تلكم العائلة النبيلة، وسألني: هل درست القانون؟!

ahmalassaf@

الرياض- ليلة الخميس 02 من شهرِ ذي الحجة عام 1446

29 من شهر مايو عام 2025م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. ما شاء الله تبارك الله
    نفع الله بعلمكم وعملكم
    والعلم لا يتحصل بالدراسة فقط وإنما بالرغبة والقراءة وقد كانت تلك مزية لك وزدت عليها بالدراسه
    وفقك الله وسددك

  2. دراستك الشرعية الجامعية قبل دراستك القانون *** هي الأساس القوي الصحيح الشمولي للقانون السماوي ألذي بنى عليه الإنسان القانون الوضعي لما تسير عليه قوانين حياتهم حسب أعرافهم وأوضاعهم الاجتماعية *** لذلك كان قرارك مفيدا وصائبا لدراسة القانون فجمعت بين الأصل وبنيت عليه الفرع *** بالتوفيق والمزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

X (Twitter)