وصايا في الإدارة والسّياسة
تحفل المكتبة الإسلامية والعربية بإرث ضخم من كتب السّياسة فقهاً، وفكراً، وأدباً، وتاريخاً، ومع ذلك يجفل عنها البعض إما استصعاباً للغتها، أو طلباً للزّهو بترداد أسماء الغربيين وكتبهم، أو جهلاً بها من حيث الأصل.
وتمتاز مخرجات حضارتنا في هذا المجال الرّحب بأنّها جمعت بين البعدين الدّيني والدّنيوي، فقد أفادت من النّصوص الشّرعية، وتطبيقات عصر النّبوة والخلافة الرّاشدة-الذّي يمثل حجّة سياسية أكثر من غيره- ثم اقتبست من التّجارب الإنسانية والحضارية السّابقة أو المعاصرة، فضلاً عمّا تفتّقت عنه عقول السّاسة وقرائحهم من أفكار، وكلمات، ومواقف.
وبين يديّ كتاب اجتهد مؤلفه في جمع مادته وتقريبها، عنوانه: وصايا الخلفاء والأمراء السّياسية والإداريّة في العصر العبّاسي الأوّل: دراسة تحليليّة، تأليف الدكتور محمد جاسم الحديثي، وهو من منشورات المجمع العلمي في بغداد سنة 1423= 2002م، ويقع في (341) صفحة، ويتكون من مقدمة، وتسعة فصول، ثم الخاتمة فالفهارس، علماً أنّ الكتاب يشمل الفترة الواقعة بين عهدي أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه، والخليفة العباسي المتوكل، مع تركيز واضح على العبّاسيين.
وسوف أسرد بعض ما قرأته في هذا الكتاب اللطيف، مع نسبة كل كلمة لصاحبها، وغير المنسوب منها يتبع لأقرب اسم مذكور قبلها مباشرة، ولم أدِّون أيَّ تعليقات عليها؛ لأنّها واضحة، حيث قالها الخلفاء لأبنائهم، وإخوانهم، وقادتهم، وعمّالهم، وبالتّالي فهي خلاصة صافية من كدر الغش، وممّا جاء في الوصايا:
- ليكن حاجبك من خير أهلك، فإنّه وجهك ولسانك. عبد الملك بن مروان.
- الشّورى تفتح مغاليق الأمور.
- لا تسرع في عقوبة قد يعقبها النّدم.
- ليس بين السّلطان وبين أن يملك الرّعية أو تملكه إلاّ حزم، أو توان.
- لا يصلح لهذا الأمر إلا من كان له سيف مسلول، ومال مبذول، وعدل تطمئن إليه القلوب.
- ما أقبح أن تكون الدّنيا لنا، وأولياؤنا خالون من حسن آثارنا. السّفاح.
- من صبر في الشّدة شارك في النّعمة.
- قال لواش: هذه نصيحة لم يُرد بها ما عند الله، ونحن لا نقبل قول من آثرنا على الله.
- الشّر يصلح ما عجز عنه الخير.
- لا يجوز الصّبر على أمرين: ما يفسد الدّين، وما يضعف السّلطان.
- من أسمل جلباب الدّين زال سلطانه. عيسى بن علي بعد قتل مروان بن محمد.
- لم تمنعنا رعاية الحقّ له من إقامة الحقّ عليه. المنصور بعد قتل أبي مسلم الخراساني.
- أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدّهماء.
- لا ينبغي أن يكون الحاجب جهولاً كي لا يُدخل على صاحبه الضّرر من حيث يقدِّر المنفعة.
- إذا كان الحاجب عيياً لم يؤد إلى صاحبه، ولم يؤد عنه.
- إذا كان الحاجب غبياً جهل مكان الشّريف فأحلّه غير منزلته، وحطّه عن مرتبته، وقدّم الوضيع عليه.
- إذا كان الحاجب ذهولاً متشاغلاً أخلّ بما يحتاج إليه صاحبه في وقته، وأضاع حقوق الغاشين لبابه، واستدعى الذّم من النّاس له، وادخل عليه من لا يحتاج إلى لقائه، ولا ينتفع بمكانه.
- إذا كان الحاجب خاملاً محتقراً أحلّ النّاسُ صاحبَه في محله، وقضوا عليه به.
- إذا كان الحاجب جهماً عبوساً تلّقى كل طبقة من النّاس بالمكروه، فترك أهل النّصائح نصائحهم، وأخلّ بذوي الحاجات في حوائجهم، وقلّت الغاشية لباب صاحبه فراراً من لقائه.
- اسمع من أهل التّجارب، ولا تردّن على ذوي الرّأي من ثقاتك النّصيحة، فتمنعها لرهبتهم منك، وأنت أحوج ما تكون إليها.
- لا تدوم نعمة السّلطان إلا بالمال.
- إنّا لا نولي للحرمة والرّعاية، بل للاستحقاق والكفاية، ولا نؤثر ذا النّسب والقرابة، على ذوي الدّراية والكفاية.
- من قلّد لذي الرّعاية ندم، ومن قلّد لذي الكفاية سلم.
- ليتسع انصافك، وينبسط عدلك، ويؤمن ظلمك، وواس بين الرّعية في الأحكام.
- اعط المسلمين حظّهم من أموالهم، وتابع أعطياتهم، وعجِّل بنفقاتهم، وعليك بعمارة البلاد بتخفيف الخراج.
- لا تبرم أمراً حتى تفكّر فيه، فإنّ فكرة العاقل مرآته، تريه حسنه وسيئه.
- لا تنس مع نصيبك من الدّنيا، نصيبك من رحمة الله.
- خطب النّاس قائلاً: والله لأفنين عمري بين عقوبتكم والإحسان إليكم. المهدي.
- أرى التّأديب بالصفح أبلغ منه بالعقوبة.
- قال لحاجبه الفضل بن الرّبيع: لا تجعل السّتر بيني وبين النّاس سبب ضغنهم علي، بقبح ردك وعبوس وجهك.
- قال للكسائي: روِّنا من الأشعار أعفّها، ومن الأحاديث أجمعها لمحاسن الأخلاق، ولا تسرع علينا الرّد في ملا، ولا تترك تثقيفنا في خلا. الرّشيد.
- قال للأصمعي: إياك والبداء بتصديقنا، أو شدّة العجب بما يكون منا، وعلمنا من العلم ما نحتاج إليه على عتبات المنابر، وفي أعطاف الخطب وفواصل المخاطبات، ومتى رأيتنا صادفين عن الحق فارجعنا إليه ما استطعت.
- قال لأحمد بن يوسف: أبواب الملوك مغان لطالبي الحاجات، فلا تكدّر معروفنا بطول الحجاب، وتأخير الثّواب. المأمون.
- إنّي التمست لأموري رجلاً جامعاً لخصال الخير، ذا عفة في خلائقه، واستقامة في طرائقه، قد هذّبته الآداب، وأحكمته التجارب.
- إنّي التمست لأموري رجلاً إن أؤتمن على الأسرار قام بها، وإن قلّد مهمّات الأمور نهض فيها، يسكته الحلم، وينطقه العلم.
- إنّي التمست لأموري رجلاً تكفيه اللحظة، وتغنيه اللمحة، له صولة الأمراء، وأناة الحكماء، وتواضع العلماء، وفهم الفقهاء.
- إنّي التمست لأموري رجلاً يسترق قلوب الرّجال بخلابة لسانه، وحسن بيانه، إن أحسن إليه شكر، وإن ابتلي بالإساءة صبر.
- من تبع منكم صغار الأمور تبعه التّصغير والتّحقير.
- ترفعوا عن دناءة الهمّة، وتفرغوا لجلائل الأمور والتّدبير، وكونوا مثل كرام السّباع، التي لا تشتغل بصغار الطّير والوحش.
- ما سعى رجل برجل قط إلا انحطّ من قدره عندي.
- ليس من المروءة أن تكون آنيتك من ذهب وفضة، ويكون غريمك عارياً، وجارك طاوياً.
- اعمر نعمتك بالعدل فإنّ الجور يهدمها.
- إيّاكم والوقوع في الملوك بحضرتنا، وإن كانوا مباينين لنا، فإنّ المرتبة نسب تجمع أهلها.
- ثلاث لا يعدم المرء الرّشد فيهنّ: مشاورة ناصح، ومداراة حاسد، والتّحبب إلى الناس.
- غلبة الحجة أحبّ من غلبة القدرة؛ لأنّ غلبة القدرة تزول بزوالها، وغلبة الحجة لا يزيلها شيء.
وفي الكتاب قصص وحكم أخرى عن الخلفاء وغيرهم، وهو بجملته ماتع للقارئ والمثقف، بيد أنّه مع أمثال له كثيرة في تراثنا، وفي غير تراثنا من نتاج الحضارة الإنسانية، نافع لرجل الدّولة وكلّ ذي ولاية عامّة، حيث توقفهم على شيء من وصايا السّابقين وتجاربهم، وإنّ التّجربة عقل آخر، والتّاريخ كنز ثمين مفتوح ومتاح لمن شاء الاغتراف منه، والنّهل من خبره وتفسيراته.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرّياض
الاثنين 14 من شهرِ ربيع الآخر عام 1439
الأول من شهر يناير عام 2018م