سير وأعلام عرض كتاب

معجم بلاد القصيم

الأعمال المعجمية مفخرة علمية ليس لواضعها فردًا  كان أم فريقًا فقط، بل لبلادهم وعصرهم والبيئة التي أنجبتهم. وإذا كان المعجم يشتمل مع أصل المادة التي يبحث فيها، على إضافات ذات علاقة من علوم شتى، فهذا يعني أننا أمام مكتبة لا يشبع منها، والأمثلة على هذا كثيرة في إرثنا وإرث غيرنا، يحضرني منها الآن طبقات الشافعية الكبرى، ومعجم البلدان، وحياة الحيوان الكبرى. إن العناية بصناعة المعاجم، والأدلة، والأطالس، لعمل جليل يشكر عليه كل قائم عليه ظهر أم اختفى.

ومن الأعمال البلدانية العظيمة التي انطلقت من بلادنا، ونهض لها علماء بلدانيون من شامات عصرنا، مشروع تأليف معجم البلاد السعودية، الذين طبع مفرقًا في عدة مجلدات حسب الأمكنة. وقد احتشد لهذا العمل أعلام هم من خيرة الكتاب والعلماء في بلادنا، مثلما قال الشيخ العلامة حمد الجاسر -رحمه الله- في تقديمه لأحدها، علمًا أن الشيخ الجاسر هو صاحب فكرة هذا المعجم الذي شمل كثيرًا من أنحاء البلاد السعودية؛ ولذلك استحق الثناء الخالد من المؤلفين، ومن القراء، وممن أفاد منه ومما كتبه ومن مجلته الثمينة ومشروعاته العظيمة، حتى أقر له بالتقدم في هذا الباب بعض أعلام زمانه.

من هذه المعاجم ضمن سلسلة المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية كتاب عنوانه: معجم بلاد القصيم، يقع في ستة أجزاء، ألفه محمد بن ناصر العبودي، وصدرت طبعته الأولى عام (1399=1979م)، ويقع هذا المعجم في (2632) صفحة، تبدأ بالتقديم، والتعريف بالمؤلف، ثم المقدمة، فنبذة عن القصيم، يليها سرد للأماكن والمواقع حسب الحروف الهجائية، وفي آخر كل جزء فهرس، وفي السادس منها فهرس أكثر تفصيلًا للمعجم كله.

وربما أن أكثر حرفين ابتدأت بهما المواضع القصيمية هما العين والميم، بينما كانت محدودة جدًا في حرف الياء مثلًا. ولم يترك المؤلف أي نوع من الأمكنة، سواء المدن والقرى الكبيرة منها والصغيرة، والأودية والعيون، والجبال والتلال، والطرق والعلامات المهمة، ثمّ أضاف بعد المعلومات البلدانية، شيئًا من أخبار التاريخ والتراجم، واللغة والشعر العربي والعامي، والسياسة والاقتصاد والقوافل وطرقها، وبعض شؤون البلاد وما اشتهرت به من أعمال ومنتجات وأحداث تخص الحاضرة والبادية. هو كتاب يتجاوز “الجغرافيا” إلى ما هو أبعد؛ ليؤكد على تداخل العلوم، وإفادة بعضها من بعض، وضرورة الإلمام بطرف منها حتى لغير أهل الاختصاص. ومع أن الشيخ تمنى أن يضيف لمعجمه، إلّا أنه أصدره بشجاعة متجاوزًا عقدة البحث عن الكمال التي أضاعت أعمال ووأدت مشروعات تاركًا احتمالية الإضافة لطبعات قادمة إن استطاع.

كما شرح المؤلف سبب التسمية بالقصيم، وهي المنطقة التي تبتدئ شرقًا من الدهناء وتنتهي غربًا بحدود المدينة النبوية – وأنعم به من جوار- على امتداد يقارب ستمئة كيل. أما جنوبًا فتبتدئ من حدود السر حتى حدود منطقة حائل على امتداد يقارب مئتي كيل. وهذا الامتداد يدلنا على أن هذه المنطقة واسعة كثيرة الأماكن، ولذلك فليس بغريب أن تتجاوز مواضعها ألفًا وأكثر، والله يحفظ البلاد، ويبارك لأهلها، ومنهم علماء البلدان الذين يستأهلون الكتابة عنهم، والاحتفاء بأعمالهم وسيرهم.

ومن لطيف ما أشار له المؤلف الشيخ العبودي -رحمه الله- أنه أدرج في المعجم بعض أخبار الأسر، لكنه رأى أن العمل سوف يتضخم ويتأخر، ولذلك فصل أخبار الأسر في مؤلف خاص، ووعد بإتمامه ونشره، وهو ما كان بعد أزيد من ربع قرن، وظهر منه معجم أسر بريدة، وعنيزة، والرس، والبكيرية، في عشرات المجلدات، وهو عمل كبير مثل معجم البلاد، ولا يخلو عمل بشري من ملحوظة كما أشار شيخنا الراحل في مقدمته. إن الشيخ محمد الناصر العبودي أحد رموز التأليف المعجمي ليس في عصرنا فقط، بل في تاريخ أمتنا، وربما في تاريخ تصنيف المعاجم  أيًا كانت لغتها وحضارتها المنطلقة منها.

وقد رأيت في حساب أستاذ المناخ بجامعة القصيم أ.د.عبدالله المسند على منصة أكس إشارة لعمل نافع مشكور، ربط فيه صانعه خلاصات ونبذ من هذا المعجم على مواقع القصيم في تطبيق خرائط قوقل، وهذا يدعوني للاقتراح على أي مؤسسة حكومية علمية أو تعليمية أو تاريخحية أو بلدانية أن تحرص على هذا العمل الكبير الذي شمل كثيرًا من أنحاء بلادنا -حفظها الله-، وتعيد طباعته ورقيًا أو إلكترونيًا كما هو، مع التعليق إن لزم، وإضافة الصور والخرائط، وربطه بالتطبيقات، وترجمته ولو مختصرًا، وآخرها إكماله في المناطق التي لم يشملها.

ثمّ إنه لمن المناسب جدًا أن تنهض أقسام علم الاجتماع في الجامعات إلى عمل ضخم يدرس الشخصية السعودية حسب الأماكن كما فعل إخوانهم البلدانيون في هذا المعجم، فتصدر لنا عدة دراسات علمية عن الشخصية السعودية مثلما صنع علماء كبار لبلدانهم، أذكر منها الآن شخصية مصر للدكتور جمال حمدان، والشخصية العراقية للدكتور علي الوردي، وأتصور أن مثل هذه الدراسات ستكون من خير ما يحفظ لنا عراقة مجتمعاتنا، ويؤكد على مزايا أهلها في الرخاء والشدة، وفي الأحوال كافة، ويكشف عن “عبقرية المكان” كما أسماها جمال حمدان.

ahmalassaf@

الرياض- الأحد 20 من شهرِ ذي القعدة عام 1446

18 من شهر مايو عام 2025م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

X (Twitter)