بقيّة السّيف أنمى عدداً!
عنوان هذه المقالة كلمة محفوظة عن عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه وأرضاه- حين أجاب سائلاً بقوله: “بقية السّيف أنمى عدداً، وأكرم ولداً”، كما أنّه يُنسب للمهلّب بن أبي صفرة -رحمه الله-: “ليس أنمى من بقية السّيف”، وقد جمع الرّجلان الحكمة مع الشّجاعة.
ولا بأس من تكرار المعنى الواحد بألفاظ مختلفة منسوبة لغير ما إنسان، ومن الموافقات صدق معنى هذه الكلمة على ذرية الرّجلين الكريمين وآلهما؛ إذ أُعمل السّيف فيهما قتلاً وتشريداً، فوجد النّاس بعد حين في الأسرتين جموعاً ذات عدد يتنامى، وأسموهم الطالبيين أو المهالبة، فسبحان من هو كلّ يوم في شأن.
وورد في القرآن العزيز قول ربِّنا -سبحانه وتعالى- عن نبيه الصّابر أيوب -عليه الصّلاة والسّلام-:﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ﴾، ومع اختلاف المفسرين حول معنى هذه الآيات الباهرات؛ إلا أنّها تجتمع في أنّ العبد الصّابر على محنته وبلواه، قد نال من ربه الكريم القادر أكثر مما ذهب منه، وإنّما العاقبة للمتقين والصّابرين.
وحين أفحش بنو العباس في قتل الأمويين ومطاردتهم، واقتدى بهم في القتل والتّشريد بعض لئام ولاة بني أمية في عهودهم الأخيرة؛ فقلبوا ظهر المجنّ لأمرائهم السّابقين، أراد الله الحكيم الخّبير أن ينجو من بني مروان فتى قطع الصّحراء، وخاض غمار الماء، حتى بلغ عبد الرّحمن الدّاخل الأندلس، وأعاد مجد أسرته في تلك الأرض الجميلة، وحكمها مدة طويلة بنفسه، ومدة أطول في عقبه وذريته، ولله الأمر من قبل وبعد.
وتعرّضت الجزيرة العربيّة لكثير من الأوبئة والمجاعات، ثم ابتليت بالغزو الخارجي الإبادي أحياناً، واستعرت الخلافات والنّزاعات بين الأسر والبيوت، وشاء الله أن تنتهي فروع وأسماء، وتبقى فروع أخرى وتزداد حتى تكون الأظهر والأشهر، وغيب السّماء محفوظ في اللوح المحفوظ، ولا يطّلع عليه إنس ولاجانّ، والموفق من أحسن الظّن بربه، وتوقع العاقبة الحميدة.
وأمتنا التي تعاني من القتل والإفناء على يد أعاديها من أهل الكفر والضلال، وصلت إلى أعلى نسب الزّيادة السّكانية خاصّة عند أهل فلسطين المرابطين، ليكون تعدادهم المتضاعف حافظاً لحقهم، ومؤرقاً لليهود وأشياعهم. ومثله يقال عن أهل السّنة الذين يفتك بهم سلاح الطّائفية الشّرسة، عبر جرائم القرامطة ثمّ النّزارية-الحشّاشين- إلى الصّفويين وورثتهم ضد العرب والسّنة، ومع ذلك فوجودهم مستمر في الشّام، والعراق، وفارس، واليمن، وسيظل بل ويزداد بإذن الله مع النّصر والعزّة.
وليس الأمر قصراً على الذّرية، والمال، والحكم، ففي شؤون الثّقافة والإبداع من هذا النّماء ما لا يحصى، ومما ذكره أبو فهر محمود محمد شاكر -رحمه الله- عن نفسه حين كتب مؤلفه الفذّ ” المتنبي”، أنّه ألقى عدّة نسخ منه في سلّة المهملات، والنّسخة التي سلمت سرت في الخافقين حتى أحدثت دوياً ثقافياً حينها؛ بل وحصدت الجوائز الكبرى بعد عقود من ميلادها.
ومثله حُكي عن الروائي العالمي آرنست همنجواي الذي اضطر ناشره لسحب المسودة الأربعين من إحدى رواياته وطباعتها، لتفوز روايات هذا الأديب الأمريكي القلق بجوائز محلية ودولية، وينتشر أمرها في البّر والبحر، وعند الشّباب والشّيوخ، وما قصص دفن الكتب أو إحراقها عنّا ببعيد، ليكون الكتاب النّاجي أكثر شيوعاً من ألف مجلّد وكتاب لم يُصب بسوء، وآثار التّوحيدي وكافكا شاهد قائم على ذلك.
وفي قصصنا الشّعبية من ذلك أخبار طريفة، فمن رجل تزوج على كبر، وحملت زوجه بمولود لم يستمتع به والده المسنّ الذي خطفه الموت، وينشأ الوليد يتيماً بيد أنه ينجب أعداداً ضخمة حتى طبع اسم أسرته على بلدته، وكم من تاجر خسر حتى أملق؛ ومع الإصرار رجعت له أضعاف ثروته، ويروى عن امرأة تحت رجل ثري مزواج أنّها فاوضته على إبقائها في عصمته؛ وتنازلت عن حقِّها في المبيت إلاّ سويعات خلال الأسبوع؛ فكانت هذه السّاعات سبباً لإنجاب ستّة أولاد أشدّاء!
وسمعت من أحد القضاة الفضلاء، أنَّ ورثة اختصموا عنده في تركة مورِّثهم، وكانوا متفقين على ثلاثة أخماس الترّكة، ومختلفين فيما تبقى، فقال أحدهم: أعطوني نصيبي من القسم المتفق عليه، وأتنازل عن حقي في الجزء المختلف حوله! فوافقوا ظانين أنّهم ربحوا الغنيمة الباردة! ومضت سنون وسنون؛ وغرق الورثة المتنازعون في التّشاكي والتّشاحن والتّشاكس، بينما تضاعفت ثروة الذي أخذ أقلّ من نصيبه، وكم في المضي للأمام من فائدة، بينما استمرار رؤية الماضي قيد ووحل قلّما يتفطن له المبتلى به.
وكم لله المحسن المنعم من أفضال خفية، وحكم غير مرئية، ومن يدري لعل الله أن يحدث عقب الضّيق سعة، وبعد العسر يسراً، ويقلب الكدر صفواً، ويحوّل الكُربات إلى مكرمات وكرامات يتناقلها الرّواة، وتتحدث بها الأجيال، وما الخير من ربنا ببعيد، وما ذلك عليه بعزيز، وإنّ ضرورات العمل، مع شعاع الأمل، يقتضيان السّعي بهمّة، والجدّية بلا توان، وطرد اليأس، والكسل، والتّسويف، فالثّمرة اليانعة آتية لا محالة، والحزن زائل، والفرج قريب، والعوض كثير.
أحمد بن عبدالمحسن العسّاف–الرّياض
ahmalassaf@
الأحد 06 من شهرربيع الآخر 1439
24 من شهرديسمبر 2017 م
11 Comments
اخي الكريم
كم نحن بحاجة إلى هذا النفس التفاؤلي في زمن علي فيه اليأس على بعض النفوس
فإن مع العسر يسرا ان مع العسر يسرا
وان يغلب سعرا يسران
حياكم الله، وإن نشر التفاؤل المنضبط عبادة.
السلام عليكم
تشرفت هذا الصباح بالتجوال بين سطور مقالتك …بقية السيف أنمى عددا
ولمحت فكرا ناضجا مغلفا بالأدب والعمق والفائدة
أشكرك على هذه الفائدة …
وأسأل الله أن ينفع بك
جزاكم الله خيرا أخي علي.
شكرا جزيلا على هذا المقال الرائع، لقد دهلت الانترنت وبي ضيق ويأس من محن تمر بي وشدائد.. وقد واستني كلماتك وكأنما أراد الله لي أن أستبشر بالخير القادم بإذنه.. جزاك الله عنا كل خير وأعاننا على قول الحق واتباعه.
رعاكم الله
تدوينة تفاؤلية موفقة 👍🏻
شكراً لك سعدت بقراءتها
وأتمنى لو تلافيت الإعلانات التي تظهر في ذيل التغريدة 😑
شكرا لكم.
الإعلانات خارجة عن إرادتي، وأبحث حاليا عن حل لها.
رعاكم الله.
مقال جميل متعدد الأفكار جزل الأمثلة و الاستشهادات بصياغة مشوقة كعادتكم نتمنى لكم التوفيق 😊
أهلا بكم دوما يا فيصل.