سير وأعلام عرض كتاب

إبراهيم بن عبدالمحسن السلطان في سيرة ومسيرة

بين يدي كتاب عنوانه: سيرة ومسيرة، تأليف: إبراهيم بن عبدالمحسن بن محمد السلطان، صدرت طبعته الأولى عام (1446=2025م)، ويقع في (309) صفحات، مكونة من تقديم وإهداء وتمهيد ثم تسعة فصول تتوزع موضوعاتها بين تمير المكان، وسنوات النشأة والتكوين، ثم زمن الانتقال والعمل، فحديث عن العائلة بعد أن أبان عن الجذور الكريمة والمنابت الأصيلة. وقضينا مع المؤلف زمنًا غير قصير في وزارة المواصلات، ثم تفيأنا وإياه تحت ظلال العمل الخيري، وأبصرنا التماسك الأسري السار بلمحات عن صندوق أسرة آل مهيدب، ولم نغادر الكتاب قبل قراءة شهادات الأقارب والزملاء والأصدقاء والجيران.

في هذا الكتاب تصوير محاط بالحنان والوفاء لبلدة تمير حيث جذور الأسرة، ومسقط الرأس، وعيش الوالدين أول الأمر، وإن هذا التصوير لمفيد لمن يرى المدينة الحديثة الآن كي يستحضر ماضيها وتراثها. وفيه وصف مسهب لحياة القدماء، وعوائد المجتمع ليس في القرى والمدن الصغيرة فقط، بل حتى في العاصمة الرياض، وهي تقاليد متوارثة في المواسم والمناسبات، وفي العبادات والاجتماعات، وبعضها تجمعهم السواليف ويفرقهم الليف! وفيها حديث عن العلاج والطعام والأواني، والدراسة والسوق والألعاب، ومنها شرح لمراسم الزواج سابقًا، ومنها “التحوال” و “الضيفة” و “الربعية” و الدخول على عروس في كامل الحشمة والحجاب، وهي أشياء ربما لا يستطيع تخيلها جيل السنابشات، وكثير منها جدير بأن يستمسك بفكرته ومنبعه، أيًا كانت الكيفية الجديدة التي يصبح عليها ما دامت تحقق أهدافها السامية.

كذلك يستبين في السيرة جزء من الكد والنصب لدى الأوائل، والجدية البالغة، ومفارقة الديار والأهل من أجل التعليم، والجمع بين العمل والدراسة، والإصرار حتى مع تعسر المطالب وبعض الخسائر، والنضج المبكر، وتناصح المجتمع بعيدًا عن التحاسد والغش، حتى أن العارف يلطع الغر على سبل الاستثمار، والخبير المجرب لا يبخل بثمرة سنواته ويمنحها دون منة لمن يستفيد منها، وهي معاني زاد الشح فيها مع العيش المدني الصرف المنزوعة منه تلك المعاني الرحيمة الحبيبة. ويدخل ضمن هذا المجال الحرص المبكر على تعلم اللغة الإنجليزية، وعلى تحسين الخط، وهذا مما أفاد المؤلف عمليًا، ولي مع الخط وقفة آمل أن أوفق لها، وأما اللغة فسبقت.

كما نقرأ في سيرة السلطان شيئًا من تاريخ وزارة المواصلات، وأذكر أن باحثة تواصلت معي تسأل عن كتب وأشخاص كي ترجع إليهم في دراستها وكتابة أطروحتها العلمية عن نشأة المواصلات في المملكة، وليتني تنبهت حينها ودللتها على أبي عبدالله، وقد أنساني الشيطان أن أذكره! ومن المفيد في هذا الفصل غير التاريخ والأحداث والتطور الإداري، وصفه الدقيق لثلاثة وزراء عاصرهم، فالشيخ محمد عمر توفيق وزير أديب، أما الشيخ حسين منصور فوزير حكيم، والدكتور ناصر السلوم وزير صاحب دبرة وصبر، رحم الله الجميع وغفر لهم.

من أكمل ما في السيرة وأعلاها تلك الأعمال العريقة الراسخة في مجتمعنا النبيل، ومنها الاعتزاز بالأبوين، وتخليد ذكراهما ومثلها لا ينسى، وتصدير الكتاب بصورة أبيه الوقورة، ومن ضمنها بر الأبوين ببناء المساجد وخضوع الجناح والطاعة حتى في تغيير اسم النجل البكر من عادل إلى عبدالله. ومن البديع في هذا الباب وفاء الرجل لمن أحاط به من نساء؛ فظلّ وفيًا لمنيرة ونورة وموضي، وأي قلب معمور بالسكينة لا ينبغي له إلّا ذلك. ثمّ فُتح عليه بنفع المجتمع والناس بالعمل الخيري والإنفاق سواء قبل تأسيس الموؤسسة المانحة أو بعده، وهذا من فضل الله على عبده؛ فكم من يد عن الإحسان غلت، وفي غيره رتعت حرة طليقة!

وقد شملت أعمال السلطان المباركة جملة عريضة من المشروعات الخيرية، مثل بناء المسجد، ودعم حلقات تحفيظ القرآن، وجمعيات الدعوة، ومشروعات طبية، واجتماعية، وتعليمية، وأخرى متعلقة بالأسكان، وثالثة في منح الجوائز التعليمية وللبارزين، ورابعة في خدمة أجهزة حكومية مثل الدفاع المدني وهيئة الهلال الأحمر وغيرهما. ومما أعجبني ويلفت النظر في هذه المشروعات أن الرجل الكريم لم ينس ديرته فهي الأساس والأولى، ولم يحرم غيرها من أمواله وصدقاته، وتنوعت مبراته بين مجالات دينية صرفة، وأخرى مدنية وفيها الثواب والأجر لمن تاجر في النية مع الله، ويا باغي الخير أقبل فما أفسح الميدان!

ومن هذا الجمال والكمال تلكم المشاركة الأسرية الدائمة من أجل خدمة العائلة والأسرة وفروعها، ولا غرو فخيركم خيركم لأهله، ومن سعى لاكتفاء عائلته وأسرته وبلدته فقد خدم مجتمعه وبلاده كلها، وقد تمثلت هذه المشاركة بصنائع على رأسها الصندوق الأسري، وهذه الصناديق باب رسمي مشرع لتخادم الأسرة وتعاونها. ولا يغيب على مطالع السيرة محبة الشيخ السلطان لبلاده وولاة أمرها، وولائه الصادق لهم، وهي خلة حميدة عالية شائعة في بيئتنا وبين أكابر الناس ووجهائهم ورؤوسهم، وهم لغيرهم قدوة.

لأجل ذلك ليس بغريب أن يكتب د.ماجد القصبي تقديمًا للكتاب لا باعتبار صلة القربى مع صاحب السيرة فقط، وليس لأجل زمالة السلطان مع والده الشيخ عبدالله القصبي في وزارة المواصلات فقط؛ وإنما لما عرفه الوزير عن قرب إبان عمله وزيرًا للشؤون الاجتماعية، والسلطان من فرسان العطاء الدائم والإنفاق الذكي. ومن هذا الباب أن ضم آخر فصل من الكتاب شهادات ثناء عدة، وتوزعت داخله صور تثبت جهوده الناجحة، وخصاله الحميدة، والله يديم عليه القبول والنفع.

ولا تخلو السيرة من مواضع طريفة، منها سؤال والد زوجته له حين الخطبة: هل تأكلون السمك؟! ومنها جواب وزير لشركة تأخرت ترسية مشروع عليها حتى قلقت؛ فطلب الوزير أن يجابوا بألّا يقلقوا لأن القلق ضار، وقد احتار المترجمون في كيفية ترجمتها. وفي هذا السياق حكاية عن طالب توظيف وه وبهيئة فيها مبالغة وتأنق في اللباس؛ لكن الوظيفة التي يطلبها وظفر بها لا تتوافق مع هذا الزي الفخم! ومنه سؤال لاجواب عنه إن كانت النار على الشاي، ووصف لطيف لصاحب السيرة بأنه “أبو هريرة الوزارة” لخبرته العميقة الممتدة فيها.

هذا عرض مجمل لأحداث سيرة سعودية طيبة، ومسيرة كفاح راشدة ملهمة، عاصر صاحبها الملوك والأمراء والمشايخ والوزراء والوجها والأثرياء، وخرج بقائمة من دروس الحياة وخلاصتها. يقف على رأس تلك العبر أهمية العزم والإرادة، وضرورة الحزم والنفع للبلد والمجتمع، مع التوقير للولاة والأكابر والمجال العام. ومنها ما نسبه للوزير السلوم بحتمية مساندة شركات الاستشارات والمقاولات؛ لأنه اليد الطولى للوزارة في تنفيذ أعمالها، وهذه حكمة إداري موفق. أيضًا منها الاهتمام بالملتقيات الأسرية، وحسن تربية الأولاد حتى صاروا من خيار أجيالهم، ومنها صرف المال في وجوه المكارم والوقف عليها مادام صاحب المال حيًا يسمع ويرى، ومنها كتابة القصة، وتدوين الحكاية، إخبارًا وتذكيرًا، وصلة للأجيال المتعاقبة بماضيها وأوائلها.

ahmalassaf@

الرياض- الاثنين ثاني أيام عبد الفطر السعيد عام 1446

31 من شهر مارس عام 2025م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

X (Twitter)