سير وأعلام

عبدالله وسعد الخلف وأبواب الأناقة!

امتاز الشيخ عبدالله بن إبراهيم الخلف، وشقيقه الدكتور سعد بن إبراهيم الخلف بأناقة في الملبس والمظهر لا تحتجب ولا تختفي. هذه الأناقة الخالية من زوائد التكلّف جزء من المروءة، وفرع عن بناء الانطباع الأولي، وتحديث بنعمة الله، ومع هذه المنزلة لها فهي ليست المقصودة بالعنوان، خاصة مع كثرة المتأنقين وتباينهم، فمنهم من وقفت همته عند حدود ملبس ومظهر، وفيهم من سما حتى تجاوزهما إلى جوهر ومخبر، وأحسب أن الشقيقين الفاضلين من الصنف الثاني الفاخر، ولا أزكيهما على الله.

كما امتازا بالدخول بعد أخذ الكتاب بقوة إلى ساحة التعليم الأهلي المحلي والدولي؛ حتى أصبحت مدارس الرواد الأهلية والعالمية أمة يقتدى بها في هذا الباب الذي تطور عند الرواد إلى عالم متقن من الاستشارات والتدريب، وصناعة المناهج الدراسية، وبناء القدرات البشرية والمؤسسية، وتكوين الخبرات الوطنية أو استجلابها في مجالات عديدة مثل:، التعليم، والتقنية، والجودة، وحفظ القيم النبيلة، والالتفات إلى التنمية الاجتماعية.

ولهم في المجال الأول أولويات وأسبقيات تعليمية، بينما عندهم في الثاني إسهام في الارتقاء بتصنيف المملكة في مؤشر الأمم المتحدة المختص بالحكومة الرقمية والتعاملات الإلكترونية؛ حتى تقدمت عالميًا وإقليميًا، وأصبحت السعودية هي الأولى في المنطقة، والثانية في مجموعة دول العشرين، وهي الثمرة التي أثنى على تحقيقها، وأشاد بجهود الحكومة والقطاع الخاص في ميدانها، خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظه الله وأمتع به- إبان ترؤسه جلسة مجلس الوزراء. ومع سمو هذا التأنق، وقدره الكبير، وعظم الحاجة إليه، فهو ليس المراد بالكتابة؛ لأن معلوماتي عنه قاصرة.

أما التأنق المقصود بالعنوان، والمستهدف بالتدوين؛ فهو أناقة الضيافة النابعة من القلب بعد أن ملأته وفاضت، بلا تكلّف عسر، ولا تصنّع شاق، وإنما تجري بها السجية الحميدة، ويدفع إليها الطبع الرشيد، ولا غرو فهذه صفة السعودي، وشيمة العربي، وفضيلة المسلم، فكيف به وهو شمري تعود جذور أسرته العريقة إلى “حائل” الجود قبل أن تتخذ من “العطار” في سدير الأصيلة مستقراً؟ وكيف به حين يتعبّد للمولى بذلك غير آبه بمال أو مآل أو ما سيقال؟! إن الكرم من الأخلاق العربية النبيلة المحمودة التي جاء النبي الخاتم -عليه الصلاة والسلام- بالحث عليها في مواطن من سيرته الزكيّة وسنته الشريفة، وهي من شعب الإيمان، وجمال الحياة، وكمال الأمم، وسعادة الحاضر والباد، وبناء على تجذرها، قطع أبناء يعرب الصحاري المقفرة، بلا زاد زائد ثقة بمن سيصادفه من العرب الجحاجح الكرماء.

أقول ذلك معاينة لا رواية، ومعايشة لا سماعًا، فقد حضرت في مزرعتهم الأنيسة في “دقلة” شمال الرياض، وفي دارتهم العامرة بحي الشهداء “غرناطة”، ولم يكن الحضور في وقت واحد فقط، بل شاركت مع آخرين في غداء، وعشاء، وفطور، وأمسيات على القهوة والشاي، وما يترافق معها وقبلها وبعدها؛ ولذلك أقطع غير مقاطع ولا مدافع بأي اعتراض، أن القوم ذوو تأنق فطري في هذا الباب، وأداء بارع باسق، قد جبلوا عليه حتى جرى في أمشاجهم، وحبّب إليهم حتى تغلّب عليهم، فغدوا مثل معاوية -رضوان الله عليه- الذي حُبّب إليه العفو حتى خشي ألّا يؤجر عليه!

من مفردات هده الأناقة: الدعوة تلو الدعوة، وتكرارها حتى لو اعتذر المدعو وأعاد بالاعتذار الكرّة، مع التماس العذر للضيف إن تأخر أو غاب. وحين يستجيب من يدعونه، لا يسلمونه لنفسه وطريقته في إدارة مواعيده والتنبيه عليها، بل يذكرونه كي لا ينسى، ويجمّلون التذكير بأسلوب رفيع وذوق ليس فيه إثقال ولا إملال، مع أنهم لا يرجون منه جزاء ولا شكورًا.

ومنها الفرح بالضيف وإظهار ذلك في سرور وحبور، والبشاشة في الاستقبال، تلك البشاشة التي تشمل البسمة اللطيفة، والكلمة المنيفة، وصنع الألفة الباكرة، وقد قالت العرب: من تمام الضيافة الطلاقة عند أول وهلة، وإطالة الحديث عند المؤاكلة. وما من شك أن استمرار الوجه الخصيب أحب عند الناس من الإسراف في مأكل أو مشرب، هذا مع أن سفرة آل الخلف لذيذة المذاق، كثيرة الأطباق، متفننة في الترتيب والتنسيق، ومع كونها أنيقة إلّا أن الحديث لا ينصرف إليها، فلا الكاتب أشعب، ولا المكتوب له كي يقرأ ممن يقدم هذه المسألة على ما هو منها أولى.

كما أنهم يوزعون أعمال الضيافة بين الأولاد والأحفاد -وإن علا سنهم وكثرت مشاغلهم- والعاملين معهم، فيخف العبء، وتتأصل السجايا الحميدة في ذراريهم وعمالهم، ويقبل المضّيف على أضيافه، فيعرّفون بالقادم للموجود والعكس مستخدمين أحسن الأوصاف، ويتيحون الفرصة لمن شاء من الجلاس أن يتحدث ولو أسهب، ومن لم يشأ طلبوا منه الإفادة بما يجيده أو برأيه إن لم يكن في هذا حرج عليه. وإبان هذه الأحاديث الدائرة لا يقاطعون، ولا يبدو منهم سوى الإنصات والعناية، ونقل أطراف الحديث بين متكلم وآخر، وبعد الفراغ يسمع الحضور منهم كلمات مثقف، ورأي بصير، ومعرفة قارئ متابع، وقصيدة شاعر، ومسامرة مستضيف تأنقت روحه ولسانه وفكره.

إن الشمول والتأنق في الضيافة ومعانيها عند آل الخلف ظاهرة وليست مقتصرة على إطعام الطعام مع أهميته وتفوقهم فيه، ويدل شأنهم هذا على رسوخ القدم في الكرم، وكم نحتاج إلى هذا النهج في بعض مناسبتنا ومجالسنا؛ إذ يدور البخور الطيب على الأضياف ليس مرة ولا مرتين بل مرارًا، فعندهم لا معنى للقول السائد: “مابعد العود قعود”! ولا عجب من صنيعهم هذا فالطيبون يأنسون للطيب ويختارونه، ويجمعون مع طيب اللقيا، وطيب البخور، طيب تهيئة الأماكن، والعناية بمجلس الضيافة، وحسن التأثيث والتجهيز والتجديد، مع الاجتهاد في اختيار المتحدثين والأضياف بما يناسب المجلس والجلسة ونوع الحوار، وربما كان الداعي للاستضافة كتاب مقروء، أو نشاط كريم مشتهر، أو فوز بجائزة، أو تماثل في الاهتمام، أو غير ذلك مما يضيف للمجلس سمة الانتقاء المفيد، وابتغاء النفيس والثمين، بعيدًا عن مساحات من الفراغ وإن علا ضجيجها.

فمما حضرته في مجالسهم العامرة الاحتفاء برائد ثقافي واجتماعي وصاحب ترجمات نافعة ضمن مشروع سعودي يستهدف ترجمة مليار كلمة، مع توقير الثقافة المحلية، ومراعاة لوازم الانتماء لبلادنا وحضارتنا، والانطلاق الحكيم منها، وهكذا هو المترجم المهندس عبدالله الرخيص. ومنها استضافة عابرة للحدود تمثلت في دعوة طبيب نفسي ومؤلف صاحب اختصاص، للحوار معه حول عدد من الظواهر المقلقة من بينها الإدمان بمختلف أنواعه، والتعامل مع هذه الظاهرة المخيفة حالًا ومآلًا، ولهذا الطبيب موقع متجدد يحمل اسمه المعروف في حقله، وهو د.عماد رشاد. وفي إحدى المرات، كانت المناسبة خاصة للاحتفاء بالمعلم منصور المنصور، بعد فوزه بجائزة فاركي التعليمية الدولية. لقد كانت تلك اللقاءات مفعمة بكل حسن، واسعة الثراء والتنوع على صعيد العلم، وفن الحوار، والتعارف بين ذوي الاهتمام.

ولأجل أضيافهم لا يتردد آل الخلف في سؤال المدعو الرئيسي عمن يتمنى مشاركته، ويحققون له ذلك قدر طاقتهم، مع تحمل تكاليف مجيء من يسكن خارج الرياض. كما أنهم يغتنمون كثرة المعارض المقامة في العاصمة الكبرى الرياض، وتعاقب المناسبات والمواسم فيها على اختلافها، للظفر بأضياف يصبحون ضمن الحضور والمنتدين مع الآخرين، أو تقام لأجلهم الدعوة، كي يقفل أولئك الزوار لديارهم بصورة أكثر إشراقًا ومودة عن البلاد وأهلها ومجتمعها.

كذلك لا يمانع الشيخ عبدالله والدكتور سعد من هجر عوائدهم لأجل ضيوفهم، حتى لو سهر الواحد منهم أكثر من المعتاد، و مقابل ذلك لا يلزمون أضيافهم بما فرضوه على أنفسهم من الاستيقاظ الباكر، وأداء بعض النوافل والرياضات؛ ذلك أن ترك الحرية للضيف في خاصة نفسه، وتجنب سوقه إلى مسار لم يألفه، فن أنيق ربما يُغفل عنه. ومن مفردات الأناقة السعي لإيناس الضيف بمشاهدة الطبيعة من نبات وحيوان وبيئة، مع الشرح النظري والعملي سواء مشيًا على الأقدام، أو ركوبًا على عربات داخلية مكشوفة.

ولا تقف الأناقة بهما عند هذا الحد، بل لديهم أناقة إدارية في التعامل مع الموظفين، فهم على رأس المدعوين دائماً، مع التعريف بمواهبهم وقدراتهم في الكتابة والتأليف والتعليم والإدارة والجودة والتقنية وغيرها، ونسبة الفضل لهم بما حققوه. ومما سمعته مستوثقًا منه أنهم يعدون خدمة الموظف لوالديه من مهمات العمل، ولا يمانعون في دفع تكاليف برامج تدريبية باهظة حتى للموظف الذي قدم استقالته أو على وشك أن ينتهي عقده، وأعجب العجب ألّا ينقطع الراتب عن بعض قدماء الموظفين أو عن ورثتهم حتى بعد انقطاع العلاقة التعاقدية!

ومن حسن تعاملهم الإداري أصبحت تتعاقب عندهم أجيال الموظفين؛ ولا غرو لأن الموظف أينما كانت دياره لن يستغرب حين تحضر إليه قيادات الشركة من أجل تعزيته، أو لمشاركته في مناسبة بهيجة! ومن أجلّ محتويات الرقي والأناقة لديهم أنهم في تعاملاتهم المالية يسيرون تحت أشعة الشمس، وفي المسارات الآمنة؛ فلا ظلمة، ولا التفاتة، ولا نفاذ من غير الباب، مهما كانت السوانح متبرجة أمامهم، ومهما تزينت المغريات لهم، وفوق ذلك ينفذون العقود ومعها زيادة غير محتسبة مبالغة في الإحسان والإجادة لصالح الوطن والمجتمع.

هذا وإن أغفل، فلعمركم لا يمكن الغفلة عن أناقة العلاقة الأخوية بين الشيخ عبدالله وشقيقه د.سعد؛ حتى أن الثاني يخاطب الأول بالإخوة والأبوة معًا، ويعترف له بفضله وحميد المآثر، وبينهما من التوقير والتطاوع ما يسر الخواطر، والله ينميها ويبقيها. ومن الأناقة الاجتماعية احتضان الشقيقين لاجتماع أسرتهم الكبيرة، وهذه فضيلة فيها صلة وبر وإحسان، وفيها مساواة وتخفيف للتكاليف، وفوائد لا تخفى خاصة على من جرب العناء في البحث عن مكان يقيم فيه مناسبته، هذا غير باهظ التكاليف. ومن خبرهم الأسري العناية بشؤون أفراد الأسرة، ورواية محاسنهم ونوادرهم.

بارك الله للشيخ عبدالله بن إبراهيم الخلف ولشقيقه الدكتور سعد بن إبراهيم الخلف، وبارك عليهما، وزادهما محبة وتآلفًا ووداداً، وبرًا بوالدهم -رحمه الله-، وبوالدتهم -حفظها الله-، وبإخوانهم وأنجالهم وأسرتهم ومجتمعهم القريب والبعيد وبلادهم. وجعلهما من الساعين دائمًا بخير وإلى خير إن قالوا أو فعلوا، وأدام لهم وفي ذريتهم هذه الأناقة الرفيعة التي تزيد مجتمعنا بهاء ورونقًا، وتحفظ بيننا المودة والتآلف، وتزيدنا أصالة وعراقة.

ahmalassaf@

الرياض- الاثنين ثاني أيام عيد الفطر السعيد عام 1446

31 من شهر مارس عام 2025م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

X (Twitter)