كتبت عن الشاعر المحسن الراحل الشيخ عبدالعزيز بن سعود البابطين عدة مقالات، وبعضها كانت مشاركة لي في ندوات تكريمه عقب وفاته، سواء أكنت متحدثًا أم معلقًا، وعقب تلك الندوات أو نشر المقالات أجد الشكر الكبير من أقارب أبي سعود، سواء من الشقيق الأكبر الشيخ عبداللطيف، أو من أنجال الشيخ عبدالعزيز وبقية الأسرة والمحبين. غير أن تفاعل شقيقه الشيخ عبدالكريم كان مختلفًا؛ فهو دائم التواصل، ومبادراته مبكرة، وأحاديثه غير مختصرة، ومشاعره تكاد أن تفيض من عينيه أو عبر نغمة صوته، وفي بعضها تواصل وهو في حيوية ونشاط، بينما ظهرت آثار التعب في بعضها الأخير، علمًا أن هذا الاتصال والتواصل شمل المنظمين والمتحدثين كافة، ومن لطفه تأكيده الدعوة لبعض المناسبات، وحرصه على ضمان الحضور والمشاركة.
وبالأمس نعى الناعي الشيخ عبدالكريم بن سعود البابطين -رحمه الله- عن سبعة وسبعين عامًا، بعد مدة ليست بالقصيرة من إصابته بالمرض العضال، جعل الله مصابه تكفيرًا له ورفعة بالدرجات، وأحسن العزاء لعائلته وأقاربه، ولمحبي الكتاب والمخطوطات وعالم الثقافة والأدب. لقد كان أبو سعود أحد الأخفياء في عالم من البهاء والضياء يكثر فيه الدعوى والبهرج، بيد أنه آثر العمل المنجز بصمات وسكون، وما كان لله فسوف يبقى، وما سواه فمآله التلاشي أو السقوط في قعر سحيق.
درس الشيخ عبدالكريم في مدارس النجاة الأهلية الشهيرة، تلك المدرسة التي كانت شلالًا دافقًا في تخريج الأجيال الذين ازدانت بهم سماء بلدان الخليج في العمل الخيري، والعلم، والأدب، والفكر، والطب، والتجارة، والمناصب العليا، والوجاهات المجتمعية. ومن الموافقات أن هذه المدرسة الجامعة قد أسست على يد ثلة كريمة من المصلحين الأخيار، ستة منهم ينتمون إلى إقليم سدير الذي ترجع إليه أسرة البابطين من جملة أسر كريمة عريقة نابهة.
وقد عاش أبو سعود في منزل عريق من أطرافه كافة؛ فالأب مرب فاضل كريم، علّم أولاده الرجولة والفروسية والصيد وتحري المفاخر حيثما كانت، والوالدة صالحة مربية، ربطت بين أنجالها وبين علماء أسرتها ومؤرخيها وشعرائها مثل المؤرخ ابن لعبون، والشاعر ابن لعبون، فحام الشعر والتاريخ والأدب في أجواء البيت، واستقرت به المآثر والمكارم؛ ولذلك لا غرابة أن يصعد أولئك الأبناء القمم في نواح علمية وخيرية واقتصادية، فزادوا من رصيد الوجاهة لأسرتهم ومن ارتبط بها، ولديارهم التي ينتمون إليها.
ثمّ لازم الشيخ عبدالكريم شقيقه الأكبر منه الشيخ عبدالعزيز؛ وصار المساند له في شؤونه لدرجة الاكتفاء به من قبل عبدالعزيز؛ فيذهب ضاربًا بالصفق في أصقاع الدنيا، وهو مطمئن قرير العين على بيته وأولاده برعاية شقيقه عبدالكريم، وهذا ما قاله غير مرة الشيخ سعود بن عبدالعزيز البابطين؛ إذ أثنى على عمه، وشكر عونه لأبيه، وقيامه بأمرهم حيال غياب الأب. سمعت هذا منه مباشرة في محافل عامة، ولاحظت تأثره؛ بل شاهدته رأي العين، حتى تكاد مدامعه أن تجري من مقلتيه وهو يذكر عمه الشفيق الغائب بسبب مرضه.
ولم تقف حدود المشاركة من قبل عبدالكريم عند هذا الحد؛ بل أصبح عبدالكريم ممثلًا لأخيه عبدالعزيز في المملكة، ومرابطًا في ديوان البابطين الأندلسي طرازه، حينما أقامت به حكومة الكويت، وعلى رأسها الشيخ جابر الأحمد الصباح -رحم الله الجميع-، بعد التحرير والعودة للبلاد، فأصبح عبدالكريم موضع النفس عن أخيه؛ كي يستجيب لما يراد منه من أجل تلك الإقامة التاريخية التي ناهزت مدتها ثلاثة أشهر.
كما أن الشيخ عبدالكريم -رحمه الله- قد شارك شقيقيه الأكبرين الشيخ عبداللطيف -أمتع الله به-، والشيخ عبدالعزيز-رحمه الله-، في رعاية الثقافة، عبر تتبع المخطوطات، ونوادر الطبعات، وأوائلها، وقديم المجلات والدوريات، وشرائها دون مفاصلة في أسعارها، ثم حفظها بما يطيل عمرها، مع تقريبها للباحثين بفهرستها وطباعتها في ثلاثة وعشرين مجلدًا فاخرًا، وإهدائها لمكتبة البابطين في الكويت، وهذا عمل ثقافي جليل، وقليل من التجار فاعله، ولم ينقطع عنه أبو سعود حتى وهو تحت وطأة مرضه وفي أواخر أيامه، ولا شك أن للتربية المنزلية من الأبوين، ولتأثير مدرسة النجاة الأهلية، ولصنيع الأخوين الكبيرين، يد في ابتداء هذا العمل الرشيد، وفي المسابقة إليه، والاستمرار عليه، وإرخاص الغالي لأجله.
كذلك فلأبي سعود صنائع معروف أخرى، في بناء المساجد، وتشييد المدارس، ودعم المبرات، وإنشاء المشروعات الصحية مثل مركز الكلى، وتخصيص وقف خاص لوالدته حصة اللعبون، مع تفقد مكتبات العلماء، ومواساة ورثتهم بالشراء ولو بالثمن الغالي، وهي مواساة للعلم كذلك ولمصنفات مهمة في المكتبة العربية والإسلامية. ومن إحسانه الثقافي مسارعته مع أخيه عبدالعزيز لتسجيل التاريخ الشفهي مع كبار السن حفظة التاريخ والوقائع، وهذه يد سابغة منهما على العلم والرواية، ومنها مشاركته الدائمة في منتديات مؤسسة أخيه عبدالعزيز، وملتقياتها، وجوائزها. ومن خصاله النبيلة الوفاء لأصدقاء الطفولة حتى لو تباينوا في التجارة والثراء؛ فلم يتغير صافي الوداد منه بناء على تلك المقاييس الدنيوية الضيقة.
أيضًا مثّل عبدالكريم أخاه عبدالعزيز في المملكة، وكان خير رابط بين الكويت والسعودية في أبواب مجتمعية وخيرية وثقافية، وفي عالم الكتاب والمخطوطات، بل إنه كان من منسقي لقاء الوفود الشعبية الكويتية مع الملك فهد -رحمه الله- في بعض المناسبات. وتحدث معي في ديوانية شقيقه عبدالعزيز بفخر عن مواقف المملكة إبان استقلال الكويت، ومساندت السعودية لطلب الكويت نيل العضوية في الجامعة العربية، وكذلك عن صلابة الملك سعود -رحمه الله- تجاه محاولات عبدالكريم قاسم العسكرية. كان يتكلم معي حينها بانطلاق وإحاطة وسعادة لهذا المصير والتاريخ المشترك.
وحين اختار الله الشاعر الأديب عبدالعزيز إلى جواره قبل أقل من عام ونصف العام، لم تحمل الأرض على سعتها أخاه المثقف الأديب عبدالكريم؛ فتدهورت صحته إلى أن لقي ربه يوم أمس السبت، وصلي عليه اليوم الأحد في الرياض، ودفن في مقبرة النسيم، والله يجعل روحه معانقة لأرواح أسلافه في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ويهب له الأمان والروح في البرزخ. والله أسأل أن يخلف علينا هذين الغائبين، وفي الكرام خير خلف لخير سلف، وعلى رأس أولئك أنجال الشيخ عبدالعزيز، الذين يحملون على عواتقهم اليوم إرث عبدالعزيز، وإرث عبدالكريم!
الرياض- ليلة الاثنين 24 من شهرِ رمضان المبارك عام 1446
24 من شهر مارس عام 2025م