قراءة وكتابة

التدفق بالكتابة

الحديث هنا ليس عن التدفق أثناء الكتابة، وهو موضوع مهم له نصيبه القادم بحول الله الذي علّم البيان وعلّم بالقلم، وإنما هو عن التدفق في الكتابة وكثرتها؛ فبعض الكتاب والمؤلفين غزير الإنتاج، وبعضهم مقل كأنما ينافس بيضة الديك ولبن الخروف في الندرة -هذا على افتراض وجودهما-. قبل الانغماس في هذا الأمر، أشير إلى أن الكثرة والقلة ليستا مجالًا وحيدًا للقياس والمعايرة، وإنما الشأن كله في الإجادة، والتأثير، وكسب الخلود، وبعض هذه الصفات سبق الكتابة عنها.

إذًا: كيف يتدفق الكاتب فلا يتوقف عن الكتابة البتة؟ الجواب عن هذا السؤال ليس بعسير أو بعيد، بيد أن الأهمية تكمن في العمل والتطبيق، لا مجرد المعرفة. هذه الطرق والتقنيات جاءت بعد تأمل، وقراءة، ونقاش، ويمكن تطويرها والزيادة عليها، وما لا يعجب الكاتب منها ففي غيره أبدال، والمهم ألّا يقع الكاتب أسير العجز، قعيد أحوال يمكن تجاوزها، فقد كتب أقوام وهم في وسط المآسي، وداخل ازدحام الأحداث.

عليه يمكن الإجابة عن سؤال التدفق بهذه الطرق المجربة القابلة للتنفيذ، علمًا أن الترتيب لا علاقة له بالأهمية، وهذه الطرق هي:

تحديد مقدار كتابي يومي:

لو وضع الكاتب له نصابًا من الكتابة اليومية أو الأسبوعية على الأقل، فسوف تجتمع لديه مادة أولية مناسبة للبناء عليها. يمكن مثلًا الاكتفاء بصفحة أو نصف صفحة يوميًا، والأهم أن تكتب ولا تتوقف. ابدأ الآن!

تخصيص يوم للكتابة:

ما لم تكن مهمتك الأصلية هي الكتابة؛ فخصص للكتابة يومًا معلومًا، ونصيبًا مفروضًا، يساوي سبع أسبوعك أو أزيد، تجلس فيه على مكتبك، ولا غاية لك سوى الكتابة، والكتابة فقط. لاحظ أن التزامك بمقدار من الكتابة اليومية سيجعل عادتك الأسبوعية هذه أيسر. جرب! فلن تخسر.

ضرورة تعزيز مكونات الكتابة:

للكتابة مكونات سبق الحديث عنها مثل: القراءة، والسماع، والتفكير، والحوار، والملاحظة، وغيرها. إذا كنت تبحث عن تدفق كتابي فزد حصيلتك من هذه المكونات، والبشرى أزفها لك بإنتاج كتابي كبير، وستكون هذه البشرى حينها أعظم قيمة لديك من زف عروس لعروس. صدقني!

التدوين الأولي:

إذا عبرت في أحد تلافيف ذهنك فكرة خاطفة فقيدها مباشرة. إذا عرفت معلومة جميلة فدونها من فورك. لا تتأخر، وتأكد أنها مثل اجتماع القطر في كأس حتى يفيض بالنمير العذب من الماء الزلال. لا تؤجل التسجيل والتدوين مكتوبًا أو بصوتك. هو كنزك؛ فهل تفرط بكنوزك؟!

شيّد مخزنك:

من الضروري للتاجر بناء مستودع أو أكثر، وكذلك الحال بالنسبة للكاتب مع الفرق بين الثمرتين! والخلاصة أن تصنع لك أرشيفًا كبيرًا منظمًا تودع فيه أفكارك ومعلوماتك مصنفة واضحة، وأن تعود إليه حال الرغبة في الكتابة لتقتبس منه، أو تعود إليه إذا لم تجد ما تكتبه، وحينها ستندهش بما يمدك به مخزنك من أفكار وسبل للكتابة. هو سرك الكتابي، وعالمك المدهش فلا تهمل تصميمه، ولا تتأخر في بنائه. مساحة المستودع حرة ولو ملأت الخافقين!

اغتنم كل شيء:

قال ثري كبير لأساتذة جامعيين زاروا مزرعته الكبرى للدواجن: لقد  استثمرت كل شيء في الدجاجة إلّا صوتها! فأجابه أحدهم: اجعله نغمة هاتف جوال! كن كالثري مع الدجاج، واستثمر كل موقف وصورة وحدث ومعلومة؛ بل وكل كلمة. بالمناسبة: استثمر حتى الصوت!

لا تراجع:

إنما وئدت أعمال بكثرة المراجعة والتنقيب عن ثغرات العمل ونواقصه، فيا أيها الكاتب ويا أيتها الكاتبة: كن جريئًا وانشر ولا تراجع! هذا لا يعني أن تلقي المادة من طرف ذهنك لأول فراغ أبيض على شاشة أو صفحة وكفى. لكن المراد: أن تتعب وتجتهد لكن لا تبحث عن كمال مفقود، ولا تراجع مرات كثيرة، ولا تطلب من غيرك المراجعة، وفي المستقبل يمكن التعديل والتنقيح. الخلاصة: لا تبحث عن كمال!

لا تنتظر الاكتمال:

إذا جمعت مادة حسنة قابلة للنشر مستقلة عمّا سواها، فلا تنتظر إكمالها بمعلومة من هنا، أو رأي من هناك، وانشرها كما هي. وحين تجتمع لديك المكملات فأنت بين خيارين هما: تحديث القديم، أو كتابة مادة جديدة، وفي النهاية يمكن ضمهما معًا. الخلاصة: لا تبحث عن اكتمال!

صناعة المسار:

لو صنعت لنفسك مسارًا في الكتابة فلن تتوقف البتة، حتى لو كان مسارك عن المسامير أو المثلثات؛ فهذا التركيز سيضمن لك التدفق، والابتكار، والتخصص، والمرجعية. هل حددت مسارك؟!

راجع تراثك:

ارجع لتراثك، وستجد فيه ما يحتاج إلى إكمال، أو تعقيب، أو تصحيح، وربما فتح بعضه لك كوة أو أكثر إلى مجال رحب آخر، أو توسع داخل الحقل ذاته. لا تهمل تراثك!

تحصن بذكرياتك:

كلما فترت عن الكتابة لذ بذكرياتك، وسيكون لواذك لذيذًا، وستحمد الأثر. الذكريات منجم فاحرث فيها، واغترف منها، وتحصن بها من أي جفاف أو حبسة. ذكرياتك هي حسابك الجاري!

متعة الإحساس:

احرص على الإحساس الكامل بكل ما حولك قدر المستطاع، أيًا كانت الحاسة المستعملة، وسوف تذهلك صفوف الأفكار التي تنتظر منك أن تكتبها. اشعل إحساسك واندهش!

تفاعل مباشرة:

إذا حدث ما يستوجب عليك المشاركة الكتابية الرشيدة؛ فتفاعل ولا تتوان البتة، وأعلم علم اليقين الجازم أن للسبق فوائده، وفي المستقبل يمكن التعديل، والتكميل، وغير ذلك، ولتضع أمام ناظريك أن التأخر قد يبهت الكتابة، أو يلغي الحاجة لها من الأصل. هيّا شمر!

الذكاء الاصطناعي:

الذكاء الاصطناعي وسيلة معينة لا بديلة، مع الحذر من أن تخدرك، أو تورطك بخطأ أو سرقة، ومع البعد عن جفافها بتلطيف المادة، وجعلها بشرية حية نابضة بالروح. كن منه أذكى!

هذه جملة أفكار، ومن المؤكد وجود غيرها، وتداخل بعضها. من الجميل أن أخبرك بأني كتبتها مستخدمًا عدة تقنيات واردة أعلاه، والاستخدام يقتضي الدمج والخلط، حتى تستوي المادة، وتغدو مناسبة كي تصافح عيون الكتّاب، وتحاور عقولهم، دون الزعم بانها كاملة، متقنة، خالية من المآخذ أو النقص، فهذه سمة البشر، والعمر إذا انفسح ففيه المجال الرحب للتصحيح، والإضافة. المهم: عساك منها استفدت؟!

ahmalassaf@

الرياض- الأحد 23 من شهرِ رمضان المبارك عام 1446

23 من شهر مارس عام 2025م

Please follow and like us:

One Comment

  1. ‎تجاوزت هذه المقالة الإبداع! نصوص مشمولة بتدفق بعد رعشة الغياب وطوله؛ تنتفض في مهبّ الإبداع وتخطو نحو مصبّه، بكل تأكيد كاتبنا العزيز مياه الكتابة الراكدة لا يحركها سوى قلمك المتدفق! هذه المقالة جديرٌ بها أن تختبر فينا مواضع الشوق نحو أسباب القطيعة التي أخذتنا لهجر “الكتابة” أحب الأشياء إلى قلوبنا وأقربها بغير طائل نفع او تبرير ، ولكن بعد هذه المقالة, كن متأكداً بأنه جرى نهر الشغف وسالت أودية الحروف متدفقة على الورق، قطعاً هي خبرة الكاتب التي جمعت بين جمال الفكرة وإسلوب الكاتب وعذوبته، واستطاعت الإجابة عن سؤال التدفق بهذه الطرق المجربة القابلة للتنفيذ والتخيل كذلك ، لنكتفي هذا المساء الممطر بتدفق هذه المقالة الرائعة! دامت حروفك متوهجة كاتبنا العزيز ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

X (Twitter)