في تاريخ الأسر، ومسيرة المجتمعات، في سير الأمكنة، وأخبار الأزمنة، لا تخطئ العين الباصرة، ولا يغيب عن البصيرة النافذة، أسماء رفيعة مؤثرة لا يمكن تخطيها، لما لها من مشاركة موفقة، وسابقة متألقة، ورمزية متأنقة، وذلك الفضل من الله الكريم الوهاب، حينما يجعل الواحد دليلًا على العراقة، وصفة للنبل، وموضعًا للإجماع، ومأرزًا في الأحوال المتباينة، ثمّ يكرمه فيصيّره في موضع الاقتداء، فأي أجر كبير كريم يُساق لصحيفة المرء من حسنات المقتدين به إلى قيام الساعة، وأي بركات متوالية تلتصق بأناس هم أشبه بالغيث المنهمر في وقته، المبارك في آثاره، العليل في نسائمه.
وأحسب غير مفنّد، أن العم الجليل مقامه محمد الصالح العساف، من ذوي المحامد الذين يصدق عليهم هذا الوصف، فلا يقصر عنه وحاشاه القصور، بل ربما زاد العم على الصفة وأربى عليها، وهذا من الربا الحلال المحمود المطلوب على ندرته. وقد استحق “أبو صالح” هذه المنزلة لا بمجرد الوراثة، أو بالمكانة الأسرية، أو بهما فقط، وإنما نالها بعد تسديد الله بما هُدي له من أعمال، وما طُبع عليه من خلال، وما التزم به من سمو الكلام، وحُسن الفعال.
فأول ما يمكن الإشارة إليه في هذا البوح أن شيخنا الكبير ينتمي لأسرة نجدية قصيمية عريقة، وهي من الأسر الكبيرة الشهيرة، التي صار عدد من رجالاتها أمراء لعيون الجواء ومحافظين، ومن أشهرهم الجد المباشر لأبي صالح، الأمير عبدالله بن محمد ابن عساف -رحمه الله-، الذي أصبح أميرًا لعيون الجواء مدة طويلة، فكسب محبة أهلها الراسخة، وديمومة ثنائهم العطر عليه، مع صناعة تاريخ لا ينسى، حتى ظفر بثقة موثقة بخط الملك المؤسس عبدالعزيز -رحمه الله-، وهي من الوثائق النفيسة المحفوظة بعناية لدى الأسرة.
وقد كان من وفاء العم لأسلافه، واعتزازه بأجداده، وعنايته بمآثرهم ومفاخرهم، أن حفظ تاريخهم وسيرهم العبقة، وظلّ يردد طرفًا من مروياتهم العظيمة والجميلة والفريدة، ولم يكتف بهذا القدر؛ إذ اختصني بتدوين شيء من سيرة جده الأمير عبدالله ابن عساف، ثمّ كتابة تفاصيل قصة عمه العم علي بن عبدالله بن محمد ابن عساف -رحمه الله-، الذي قطع رحلته التجارية مع العقيلات بعد أن خسر أكثر أمواله، وغامر برحلة بحرية غير مسبوقة، حتى وصل إلى الأرجنتين قبل قرن ونصف، وأقام فيها يصفق بالأسواق سنين عددًا، حتى قفل لوالده ومرابعه ببياض الوجه كما صح منه العزم والقول، وهي حكاية قديمة مسندة متداولة عن صاحبها ومعاصريه، وحين نشرتها تواصلت معي قنوات عربية كبيرة بغرض تحويلها إلى مادة وثائقية؛ وعسى أن يتم هذا المشروع.
كما حرص أبو صالح على الانتظام في إقامة حفل عيد الفطر المبارك للأسرة، مع ترتيب المسؤولية عن هذه المناسبة الدورية قدر المستطاع. ولم يقطع عادته في الدعوة إلى الإفطار الرمضاني السنوي بمنزله العامر، وهو إفطار يشبه حفلات الأعراس في الاستعداد له، وكثرة المدعوين إليه. ومن هذا الباب أن العم العزيز يفتح بابه بعد صلاة الجمعة كل أسبوع، ويفرح بمن يفد إلى مجلس قديم متوارث، يستضاف فيه القريب والبعيد، وتتداول فيه الأحاديث العذاب المستلطفة، التي لا تنقصها الفائدة، ولا يخرمها شيء البتة.
ثم إنه على رأس الحاضرين في مناسبات الفرح من زواج وغيره، ومن أوائل المشاركين في تشييع الراحلين والصلاة عليهم، سواء أكانوا من الأسرة، أم ممن اتصل بها بنسب ومصاهرة. ومما أعلمه عن قرب تتبعه الشديد لما رواه جمع من أهالي البكيرية عن عدة نساء هن لآبائهم وأمهاتهم جدات وعمات وخالات، وينتسبن لأسرتنا. وبعد بحثٍ وتقصٍ تبين أنهن بنات لأحد أبناء الأسرة الذين انتقلوا للبكيرية، ولم يعقب غيرهن حتى عرفن بوصف “النامسيات”، أي أنهن جلبن لأبيهن النوماس والفرح. وقد زار أبو صالح -ومعه رفقة- أحد المعمرين من أسرة اللحيدان؛ لتوثيق خبر العمات، خاصة أن إحدى العمات جدّة له، وبعد سؤاله وسؤال غيره اتضحت الصورة للجميع، وثبتت خؤولتنا لعدد جم من أسر البكيرية الطيبة النبيلة.
ولم يقف هذا الرجل الشامخ عند هذا الحدّ، بل مضى مع آخرين لإصدار شجرة شاملة للأسرة، قابلة للتحديث دوريًا، وأيضًا مدّ جسور الصلة مع الأسر التي تنتسب لآباء الجد الكبير عسّاف وهم على التوالي: عجلان وراجح ومسند -رحمهم الله جميعًا-، وأصبحت العلائق أقوى مع هذه الأسر الجوائية الكريمة التي استقر بعضها في بريدة والكويت وغيرهما. ومما عني به أبو صالح الفخار المستحق دون زهو ممقوت بماضي الأسرة وبقية أسر الجواء في رحلات العقيلات وقوافلهم؛ ولذلك كان حفيًا بأي عمل يخدم تاريخ أولئك الغر الأماجد، الذين ما ركنوا للحاجة، وما استسلموا أمام لأواء الحال؛ وإنما جابوا الأرض بحثًا عن الرزق الممكن الحلال، وصنعوا مع الثروة حكاية عظيمة عظيمة، قمينة بأن تُروى وتُدرس.
كذلك من خبر عمنا المبارك تقديمه للكبار سنًا أو قدرًا، وتفخيمه للبارز من أسرته ولو كان أصغر منه، وهذه منقبة لا يقوى عليها إلّا الكبير الركين الواثق بنفسه. ومن جميل خصاله أن حديثه عن السابقين أو الحاضرين يتوشح بالأدب والتقدير والاعتذار، وأنه يمتنع عن بعض الخوض حتى لا يجرح أحدًا ثوى في قبره منذ زمن، وتحاشيًا لاجتراح ما لا يجدي نفعًا، فهو الشغوف بالاجتماع، الساعي في كل ما من شأنه التقارب والتآزر، إن بعمل عام مثلما سلف بعضه، أو بإجراء خاص، وبجهد دؤوب لا يكِل، يرتق به الفتق، ويشدُّ من الأزر، ويقلّص رقعة الحاجة.
أما في خاصة شؤون أبي صالح، فله مشاركات مجتمعية غير منحصرة، تشمل الجيران، ورفقاء الدراسة أو العمل، وأصحاب السفر الماتع الذي يهواه داخل المملكة وخارجها، إضافة إلى إشراق المحيا، وطلاقة الوجه، وطلاوة الحديث. ومما امتن الله به عليه، أن رزقه ذرية زكية بارعة، أعانه الله وزوجه الصالحة، على جمال تربيتهم، وكمال تهيئتهم لما يأتي ويُستقبل، حتى ملأوا القلب والعين جلالًا وبهاء، وصاروا من مقدمي أجيالهم، ومن خير قدواتهم.
حفظ الله الرجل الموفق والعم الكبير محمد بن صالح العبدالله العساف، ولا قطع له في الخير عادة، وأدام منه صنائع المعروف والبر، وجعل مجالسه عامرة معمورة، وأيامه ولياليه بالسعادات مغمورة. هذا وإن الإشادة بجليل قدره لم ينبع من دافع القرابة، أو تقود إليه عصبية، ففي مجتمعنا شخصيات كبيرة سبق أن كتبت عن مئات منهم، والحمدلله أن جعل بلادنا باسقة الطلعة، عميقة الجذور، أصيلة الثقافة، وأكثر فيها من الأسر العريقة، والأعمال المشرفة، والأفراد الفضلاء، اللذين يصفون هذه العراقة الثابتة وصفًا جليًا لا عوج فيه، ولا يتطرق إليه احتمال، وإن العم العزيز محمد الصالح العساف لبمكان منهم ومكانة.
الرياض- السبت 08 من شهرِ رمضان المبارك عام 1446
08 من شهر مارس عام 2025م
14 Comments
أخي العزيز أبو مالك
قرأت مقالك البديع عن أبي صالح، ووجدت نفسي أتوقف مرارًا عند عبارات رائعة لم أكتفِ بقراءتها فحسب، بل أعدت قراءتها مرات عديدة لأتذوق جمال كلماتك وبلاغة طرحك.
لقد أجدت الوصف وأحسنت الثناء، وأعطيت كل ذي حق حقه، فأبو صالح أهلٌ لمثل هذا الإشادة والتقدير.
جزاك الله خير؛ وشكرًا لك على هذا الإبداع، وبارك الله في قلمك.
شكرا لكم، والله يرعاكم أبا عبدالله.
الله يجزاك خير يابو مالك يستهال ابو صالح فعلاً علم أسأل الله ان يحفظنا جميعا ويجمع بيننا بخير دمتم رعاكم الله
شكرا لكم، والله يرعاكم.
يستاهل ابو صالح و تسلم ايدك اخوي ابو مالك وماقصرت
شكرا لكم، والله يرعاكم.
كتب الله اجرك وغفر الله لوالديك واحسن الله إليك على هذا المقال الموفق بحق عمنا الغالي ابو صالح وهو كما ذكرت من قلائل الرجال الكرام الذين تمسكوا بجميع المبادئ الحميدة والصفات الحسنة فجزاه الله عنا خير الجزاء على ماقدم ومايقدم لأهله وأرحامه وجماعته ومتعه الله بالصحة والعافية والسعادة الدائمة وطول العمر وحسن الخاتمة ولكم اخي الغالي اجزل الدعاء وأصدقه على ماتقدم من عمل جليل نفخر ونفتخر به ورحم الله والديك الكرام وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين 🌹❤️✋👍
شكرا لكم، والله يرعاكم أبا محمد.
يستاهل العم أبوصالح كل خير فهو فعلا قامة من القامات العالية بكل مكان يتواجد فيه
الله يبارك له بماله وعياله.
صاحب الأيادي البيضاء الله يطول بعمره على الطاعة وهو بصحة جيدة.
شكرا لكم، والله يرعاكم أبا نجم.
جزاك الله خير أخي العزيز أبا مالك لقد أبدعت في وصف هذه الشخصية الفذه فهو يستحق كل الثناء
شكرا لكم، والله يرعاكم أبا يحيى.
قلم جزيل ومادة زاخرة،
هكذا أصف ما كتبت يا أبا مالك.
الخال محمد الصالح شخصية يعجز المرء من اين يبدأ في الثناء عليه، وكل ما قيل فيه يستدعي المزيد، كأن الفضل تواصى عليه، والمكارم تجمّعت فيه تحفّ بعضها بعضًا.
اشكركم على هذا البيان الذي أنصف المعنى وأحسن الوصف.
شكرا لك ولقلمك الذي جمع الهندسة والأدب، والله يحميك ويرعاك.