عاش الأمير منصور بن عبدالعزيز (1336-1370=1918-1951م) حياة قصيرة بحساب السنين، لكنها ذات ثمار ومنجزات وأوليات. فالأمير منصور هو واحد من ثمانية أبناء شاركوا في مسيرة توحيد البلاد مع والدهم الملك المؤسس -رحمه الله-. هؤلاء الأبطال الثمانية هم: الأمير تركي الأول، والملك سعود، والملك فيصل، والأمير محمد، والملك خالد، والأمير ناصر، والأمير سعد، والأمير منصور، -رحمهم الله جميعًا-. مصدر هذه المعلومة هو حساب تاريخ آل سعود على منصة إكس، ومعلومات هذا الحساب دقيقة، ولا أعلم من يشرف عليه.
بعد أن درس الأمير منصور على عدة مشايخ وأساتذة، والتحق بمعهد مكي، وأنيطت به مهمة إدارة القصور الملكية، آنس والده العارف بالرجال من ابنه النجيب ذهنًا، المهيب جسدًا، النشيط همة، البهي طلعة، الأهلية الكاملة، والقدرة الأكيدة؛ فأسند إليه وزارة سيادية جديدة سوف تُسلخ من جسم وزارة المالية المثقلة بالأعباء، لتتحول وكالة الدفاع إلى وزارة الدفاع، وهي رابع وزارة حكومية بعد الخارجية والداخلية في تكوينها الأول والمالية، وأصبح بذلك الأمير منصور أول وزير للدفاع ومفتش عام في المملكة بين عامي (1363-1370=1943-1951م)، وهو من الذين تولوا المنصب الوزاري وسنّه دون الثلاثين؛ فأظهر -مثل غيره- لهذا الاصطفاء ما يقابله من أخذ الكتاب بقوة، واستحقاق مبرهن عليه.
بني هذا الاختيار الملكي على معايير عدة، منها إجادة الأمير منصور لفنون الحرب، ومشاركته في عدة معارك، وإتقانه لأعمال الفروسية والصيد، وبسطة جسمه، وإشراقة ذهنه، واستعداده للصبر والتعلّم. هذه العوامل موجودة في إخوانه الباقين الذي شغلوا بمناصب ومسؤوليات أخرى، بيد أن منصور امتاز بشغفه الظاهر فيما يخص المعرفة الحربية المتعمقة، حتى أنه أبدى خبرة لافتة بأسلحة متطورة غير معهودة في بلاده، ولا مستعملة من قبل جنودها، واستورد أسلحة ثقيلة وخفيفة، ومنها سلاح سمي عليه، واشتهر بوارد منصور.
فلم يتوان الأمير المنصور بعد هذا التكليف، وبادر من فوره لإعداد جيش سعودي قوي، وشرع في التهيئة العلمية والعملية لهذا الأمر الجلل في شأنه كله. من صنائعه الحميدة: إرسال البعثات من شباب الوطن إلى بلدان عربية وأجنبية، واستقدام المدربين من دول متقدمة عسكريًا. ومنها تطوير المعاهد العسكرية القائمة، ونقلها للعاصمة الرياض، وقد أصبحت هذه المعاهد نواة مباركة؛ إذ تحولت عام (1375=1955م) إلى كلية الملك عبدالعزيز الحربية، أول كلية عسكرية سعودية. ومن أعماله بناء الثكنات والمعسكرات، ووضع نظام عسكري بما فيه من حقوق وواجبات ومزايا مادية ومعنوية، وتفعيل رئاسة الأركان، وبناء المصانع والمناطق العسكرية، واستقطاب الكفاءات لهذا الميدان الجديد من ناحية التنظيم والهيكل الحديث، فتزايدت أعداده سنة تلو أختها.
ثم سعى الأمير في كل ما من شأنه تطوير الجيش الجديد، وسافر لبلدان عدة، وطال مكثه في بعضها، كي يتعرف على مكامن القوة العسكرية فيها، ويخدم بلاده من هذا الباب في جميع ما يرتبط بالجيش؛ حتى أنه كان وراء ابتعاث الضابط طارق عبدالحكيم لدراسة الموسيقى العسكرية. وزار الطلبة السعوديين المبتعثين، والتقط الصور معهم، وكان من النتائج المبكرة لهذه الجهود مشاركة قوة من الجيش السعودي في الدفاع عن فلسطين في حرب عام (1948م)، وقد أشاد عسكريون مصريون كبار بمهارة الجيش السعودي وشجاعته، وعن هذه المشاركة صدر كتاب للأستاذ الكاتب محمد بن ناصر الأسمري عنوانه: “الجيش السعودي في حرب فلسطين 1948”.
هذا الانغماس في الشأن العسكري المنهك لم يحل دون حضور الأمير في مناسبات أخرى؛ إذ رافق والده الملك عبدالعزيز -رحمه الله- في زياراته لمصر، وفي لقاءاته التاريخية مع “روزفلت” ثم “تشرشل”، وكان دائم التواصل مع ديوان الملك حرصًا على النهل من معين حنكة أبيه، والقبس من بصيرته. كذلك عرف عن الأمير منصور عناية بالكتاب والقراءة في الأدب والتاريخ وغيرهما من العلوم، وقد تكفل بطباعة عدة كتب شرعية على نفقته، وأهدى لمكتبة بريدة نسخًا من أحد كتب الإمام ابن تيمية -رحمه الله-. ومن الموافقات أن تغدو ابنته الوحيدة الأميرة د.موضي صاحبة تخصص عالٍ بالتاريخ، ولها كتب مؤلفة في هذا الباب، ومترجَمة للإنجليزية، وفوق التخصص لديها إسهامات خيرية بيئية ومجتمعية.
كما أمضى الأمير الشاب الجزء المخصص من وقته للاستمتاع المباح بالحياة في الصيد، والعيش في البراري، وروى الكاتب الأديب أحمد عبدالغفور عطار -رحمه الله- عن صحبة الأمير قصة له أشبه بالخيال؛ حين وجد نفسه في الصحراء وحيدًا، تحيط به ثمانية من الذئاب؛ فتغلّب عليها بمهارته في التصويب بالسلاح الناري، وهي مع غيرها من القصص ضمن كتاب عطار بعنوان: “الأمير منصور وزير دفاع المملكة العربية السعودية”.
ومن مجالات الاهتمام لدى منصور الالتفات للرياضة، وقد حظي نادي الاتحاد الجداوي بتلكم الالتفاتة، ولذا يفخر النادي بأنه النادي الوحيد -كما يروى- الذي كاتب الملك المؤسس، وكانت المكاتبة -إن صحت الرواية- للعزاء في وفاة نجله منصور. ولم تنقطع علاقة الأمير مع النادي بوفاته؛ إذ أصبح الابن الوحيد لمنصور وهو الأمير طلال -رحمه الله- رئيسًا له، ومؤازراً للاتحاد بلا تردد. وللأمير منصور مواقف طيبة في الإنصات لذوي الحاجات، وطول البال عليهم، وهو شفيق بإخوانه الأصغر منه؛ إذ رافق أخاه الأمير طلال -رحمه الله-، وهو يتعالج في مصر، ثمّ آبا معًا للديار.
ويشاء الله أن يُصاب الأمير الشاب بمرض مفاجئ، فيذهب للعلاج، وتهبط الطائرة في باريس للتوقف قبل إكمال مسيرتها إلى أمريكا، وهناك فاضت روحه إلى بارئها، فعاد إلى جدة مع أخويه الملكين فيصل وخالد، وصلي عليه بالمسجد الحرام، ودفن بمكة. وبعد الوفاة شيّد له والده الملك عبدالعزيز عدة مساجد في الرياض ومكة وجدة، وهذه المساجد لها قيمتها التاريخية، إضافة إلى أن مسجد منصور بجدة أصبح معلمًا دعويًا وعلميًا وخيريًا وإغاثيًا بفضل الله ثم بتوفيقه لورثة منصور الذين ساندوا المسجد بالدعم السخي، وحسن الاختيار للأئمة والقائمين على العمل المبارك فيه، وعلى رأسهم الشيخ فريح العقلا -رحمه الله-.
ومما حفظ عن الأمير منصور احتفاءه بالصداقة والزمالة خاصة مع طلبة المعهد المكي، وارتجاله لكلمات جميلة غزيرة المعاني أمام العسكريين وضباط الجيش وأفراده داخل البلاد وخارجها، وبعضها مسجلة في مقابلات إذاعية، إضافة إلى علاقاته القوية بالمثقفين في مصر، وبالعسكريين في بلاد عدة، وبتقديمه النصيحة لمن حوله، ومن ذلك أن الشيخ محمد الدغيثر -رحمه الله- ينسب للأمير منصور الفضل فيما اشتراه من أراض بأسعار زهيدة إبان ذلكم الزمن، حتى تضاعفت أسعارها.
هذا هو الأمير منصور، الابن الثامن للملك عبدالعزيز، والثاني في الرحيل عن الحياة من الأبناء الكبار، وكانت وفاته في حياة أبيه؛ فغدت فاجعة فقده والصبر عليها في موزاين أعمال الأب مع مصيبة وفاة نجله البكر تركي الأول. وهو أول وزير يغادر الدنيا وهو في منصبه الوزاري، وربما أن شقيقيه الأميرين مشعل ومتعب -رحمهما الله- قد أسميا أنجالهما على شقيقهما المتوفى شابًا دون الأربعين، وهما: الأمير د.منصور بن متعب وزير الدولة حاليًا، والأمير منصور بن مشعل. رحم الله الراحلين، وحفظ الباقين، ووفقهم لإدامة العمل الصالح المبرور لمن سلف من أوائلهم، والله يتقبل من الكافة صالح النية والعمل.
الرياض- الأربعاء 27 من شهرِ شعبان عام 1446
26 من شهر فبراير عام 2024م