لرمضان المبارك أسرار، بيد أنها مكشوفة، وهذا هو أصل كل سر رمضاني، فالحمدلله على فضله وعونه. هذه الأسرار الرمضانية صنعت له مكانة خاصة في نفوس أغلب أهل الإسلام، وخسر هذه المزية قلة من أهل البخس ونقصان الحظ، وهذا سر رمضاني عظيم حين يكشف لنا عن وجود الفطرة أو بقية منها، وحين يجعلنا نخشى من انطماسها لدى أقوام علا الران على قلوبهم، بعد أن أشربت الفتنة عودًا عودًا، فلم تأبه بحكم شرعي، ولا بمعروف أو منكر.
ومن أسرار شهر رمضان المعظم أنه يربي الإخلاص فينا؛ فمن يمنع نفسه من المفطرات وهو قادر على الاستخفاء بها، جدير بأن يعمر قلبه وحياته بعبادات خالصة لوجه الرب الكريم سبحانه، وما أكبر قدره من سرٍّ حين تكون نتيجته تحقق أحد شرطي قبول الأعمال وهو الإخلاص، ويتبعه سر آخر، هو أننا نصوم كما صام النبي الأكرم -عليه الصلاة والسلام- ووفاق سنته المنيفة، وبالتالي نفوز بالشرط الثاني للقبول وهو المتابعة، وهذا فضل من رب العالمين.
من أسرار رمضان أيضًا، أننا بعبادة واحدة، نهذب الروح واللسان والجسد، فالصيام لا يقتصر على الطعام والشراب، وإنما يمتد إلى الجوارح ومكنونات النفس التي تضيق سبلها على الشيطان الرجيم وجنده المردة، وهذا سر رمضاني إضافي؛ إذ نشعر بالانتصار على عدو غرور مضل مبين لطالما خطى بنا نحو ما لا تحمد عقباه، والحمدلله الذي جعلنا نرد كيده في نحره خلال هذا الشهر الروحاني، ونسترد العافية الدينية، والثقة في قدرتنا على رفض الانصياع لغواياته.
كذلك من الأسرار الرمضانية، اتساع الخاطر والوقت والنفس للناس قريبهم وبعيدهم، فلا ينهر سائل، ولا يكهفر أحد أمام مستطعم، وتبش الوجوه وتهش للقادم بزيارة خاطفة، أو للسلام والتحية، مع الترحيب بالمتواصل بأي وسيلة، وإن القدرة على استيعاب الناس، ووسعهم ولو بطلاقة المحيا واللسان، والنجاح في التفاعل مع المجتمع، لمنّة يسجد العبد شكرًا للمنعم عليها، وفي رمضان فرصة كبيرة لاكتسابها، والتعود عليها.
كما أن رمضان وعبادة الصوم، تجمع للمرء الصبر بأنواعه الثلاثة، ومرحبًا بالعبادة التي تغرس الصبر في النفوس، وإنه لصبر دافع للعمل، جالب للثبات، وليس سببًا للقعود أو النكوص، ولا مدعاة الكسل كما قد يتوهم المستعجل. وفي ذلكم الصبر يؤدي الصائم عبادة المراغمة، وهي عبادة جليلة، يستعلي بها المسلم والمؤمن على النفس والهوى ومغريات الحياة الدنيا وتلبيس الشياطين، ويا له من سر رمضاني مهم يجمع الصبر والمصابرة والمراغمة معًا.
ويأتي رمضان بعد انقضاء ثمانية شهور من السنة الهجرية، وعلى مقربة من تمامها؛ فكأنه جاء لغسل أدران ما سلف وكان، والاستعداد للخاتمة بأحسن ما يمكن، فما ألذ الانتظار بعد حصول اللقيا، وما أجمل الترقب بعد الظفر بالمطلوب، وما أحسن وقع رجاء القبول، والأمل بمضاعفة الأجور، ومحو الخطايا، التي يجدها الصائم في نفسه، وهذه جملة أسرار رمضانية جليلة.
يضاف لهذه الأسرار المتآزرة أن الشهر كلما مضى منه يوم زاد تقاربه من خير لياليه، وإنها ليلة مختلفة منذ مغربها إلى مطلع فجرها، وهي سرٌّ عزيز خفي، قد وقفنا على جلّ ما يحتف به، دون القدرة على تعيين وقته بما يقطع الشك أو يزيل الاحتمال، وهذا سر تحفيزي يجده الموفق دافعًا للاجتهاد والتشمير، وما أقلها بعد أن حصرت في ليلة طلقة مشرقة متبلجة ما بين ليال عشر أو حتى خمس!
ثمّ إن رمضان هو شهر القرآن الكريم بأكثر من طريق، وقد نال الموسم من بركات الكتاب العزيز المبارك، وجدّد ارتباط المسلمين به تلاوة وتدبرًا وتردادًا وختمة، وإن آثار بركة الكتاب المجيد لا تخفى خاصة في رمضان إذ تعمر به المساجد والمحاريب والسواري والبيوت والأجهزة. ومن أسرار شهرنا أنه ينتظر مدة طويلة، وحين يغادرنا نرجو تكرار الفوز به مرة أخرى، والمحظوظ من توادع مع الشهر الفاضل بعد أن اقتبس منه شيئًا يستثمره لآخرته الآتية ولا محالة، وإنه لسر رمضاني مؤثر حقًا.
هذا هو شهرنا الأعظم، شهرنا الذي يكسب منه المجتمع كله، شهرنا الذي يؤكد وحدتنا الدينية، وشهرنا الذي يرسخ الثبات على الحق قدر المستطاع، وشهرنا الذي يبعث الفطرة من مكامنها ولو انطمرت تحت الركام، وشهرنا الذي به وله نفرح، ومنه يتنغص الأبالسة والأفاكون. ألا ما أقدسه من موسم، وما أكمله، وأحسن أسراره، ما علمنا منها، وما لم نعلمه، فمن الحتمي المقطوع به أنه يحتوي على أسرار ومنح وفيوض ونفحات، والله يجعلنا ممن ناله منها نصيب وافر متقبل، سواء أشعر بها وأدركها، أم حجبت عنه.
الرياض- الثلاثاء 26 من شهرِ شعبان عام 1446
25 من شهر فبراير عام 2025م