الأصل في الإنسان التغيّر والتقلّب خاصة في أول عمره؛ فإما أن يستقر ويتوازن، أو يستمر في التنقل بلا التزام بطريقة حياة أو منهج تفكير. الجمود الدائم كضربة لازب ليس صفة حسنة، وبالمقابل فالسيولة الأبدية منزوعة الثبات ليست محلًا للثناء. التوازن الجميل هو الصفة المحمودة المنشودة، فكل صفة فيها الجميل المحبّب، وفيها إفراط وتفريط، وهما طرفا نقيض يعودان بالمشقة والعنت على صاحبهما، وعلى من حوله أو اتصل به.
بل إن سمة التوازن نفسها قد تظهر مع الإنسان ذاته في أحوال، وتغيب عنه في أحوال أخرى، ولله في خلقه شؤون، فما أعجب هذا الناس، وما أصعب فهم طبائع بعض البشر. إن إدراك هذه المسألة أمر ضروري كي يمكن تفسير التصرفات والآراء، وتقديم العذر وإحسان الظن المستحق، وبغير تصورها ربما وقع الناظر في خلط كبير، بين طبيعة متزنة في موقف، مرتبكة في آخر؛ هذا الفهم يرفع الوعي بخصائص بني أبوينا آدم وحواء -عليهما السلام-.
مع ذلك؛ لا تخلو المجتمعات من نماذج للتوازن في جلّ شؤونها، التوازن لا يعني التساوي البتة، ولا يُقصد منه الهدوء دومًا. إن التوازن هو المقابل الأقرب للحكمة؛ حين يضع المرء الشيء في موضعه؛ غير متقدم ولا متأخر، فيفعل ما ينبغي، على الوجه المطلوب، في الوقت الملائم، ومن وفق لبلوغ هذه المرتبة فما أسعده، وما أسعد المحيطين به من أفراد ومؤسسات ومجتمعات، وما أكثر الفوائد التي يجنيها المتأثرون به، الناهلون من معينه.
وأحسب أن معالي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله السالم -رحمه الله- (1351-1446هـ =1932-2024م) من أجلى الأمثلة، وأوضح النماذج، التي يمكن الاستدلال بها على جمال التوازن، وبهائه، ومنافعه. لقد كان الشيخ متوازنًا في فكره بين أمرين لطالما صُنع بينهما صراع مفتعل بغيض، لا وجود له في عرف البصراء وذوي الألباب، فهل يمكن لعربي أن يعادي الإسلام الذي خلّد اللغة العربية، ونزل وحيٌ بها يُوحى على نبيٍّ عربيٍّ في أرض العرب وبينهم؟ وهل يتصور من مسلم ازدراء العرب ومناوأتهم وهم مادة الإسلام الأصلية، وإلى ديارهم مأرزه ومأواه؟!
كما توازن الشيخ في الجانب الثقافي من خلال زوايا عدة؛ فهو أولًا قارئ خبير دائب الاطلاع بلا انقطاع، بيد أنه كاتب عرف حق القلم وواجب الفكر عليه، والتوازن بين نعمتي القراءة والكتابة يعاني من خللٍ لدى جمهرة من الفريقين. وهو كاتبٌ راسخ المبدأ، شامخ المعنى، باذخ العبارة، دون أن تطغى على أفكاره الألفاظ، ودون أن تقعد به القراءة عن الكتابة، أو تستحوذ عليه لذة الكتابة، فيلوذ بها هاجرًا نعيم القراءة.
أجزم أن الشيخ كان يرى نفسه مثلما عبّر الكاتب الأرجنتيني العالمي “بورخيس” أو “مانغلو”؛ حين وصف مشواره الثقافي الطويل بقوله: أنا قارئ لديه القدرة على الكتابة! إن وجود هذا التوازن يحمي الثقافة والفكر من دخلاء تنقدح طلائع الفكرة في رؤوسهم، ثم تهبط على الورق مباشرة، دون قراءة أو تقليب أوجه النظر، إن هذا التوازن يجعل المثقف ممسكًا بالكتاب إلى أمد، وممسكًا بالقلم إلى مدى تابع لذلكم الأمد، وهكذا كان الكاتب الأمين الشيخ السالم.
من توازن الشيخ الثقافي حرصه على الجلسات الثقافية والمسامرات، التي يخرج منها مفيدًا ومستفيدًا، وانصرافه عن أي منصة للاستعراض والتزيد بقولٍ أو دعوى مهما تبهرجت، ولو شاء لسعَتْ إليه -بلا كللٍ- منصاتٌ وقنواتٌ ووسائل. ومن توازنه الثقافي اعتزازه الكبير بلغته العربية، وتصحيح المقربين منه حتى في الشكل والإعراب والمرادفات، بيد أنه يهتم بإجادة لغات أجنبية، ويساند الجاد في هذا الباب، على أن تكون اللغة الأم هي الأولى. لقد كانت اللغة الرسمية التي يكتبها الشيخ أو يحرر بها المكاتبات لغة إدارية ملتزمة بضوابط الكتابة الإدارية وإطارها، بيد أنها سلمت مما ينتشر في بعض الكتابات الإدارية من ثقل وغثاثة، وهذا باب من التوزان نادر وفريد.
كذلك فاز الشيخ أبو عصام بتوازن بين الوظيفة وحياته الأخرى الخاصة، فكان ممن أعطى لكل ذي حق حقه؛ ولأجل ذلك ترك المنصب العالي بهدوء، دون أن تنكسر له نفس، وبلا شعور بوخز فقْدِ المراتب الرفيعة، وإنها للحظة عصيبة عصيّة على النسيان عند مسؤولين كثر، ولا ريب أن يصف قدماء العرب الابتعاد عن المنصب بأنه “حيضة الرجال”؛ فكم فيه من ألم نفسي واضطراب جسدي، وكم يحتاج صاحبه إلى الاعتزال بمعناه المحمود إلى أن يلتقط أنفاس الحياة الطليقة من جديد، أما الشيخ عبدالعزيز فلم يتسرب إليه شيء من ذلك كله، وغادر الكرسي الفخم إلى البيت والمجلس والمجتمع؛ كأن لم يكن في سنونٍ مضت ملء السمع والبصر. والشيء بالشيء يذكر، فنهج الشيخ السالم الاجتماعي اتسم بقدر من التوازن الأقرب للتحفظ.
ومن أجلّ مواضع التوازن في حياة الشيخ أنه لم يلهث خلف المال، ولو أراده لكان أقرب إليه من يده، وأيسر من شرب الماء، بيد أنه رام التحرز، ونظافة اليد في الدنيا، وخلو الكتاب في الآخرة، من أيّ أموال سوف يُسأل عنها ولا مناص. وقد أعلن إخفاقه في الثراء والاستثمار، وابتعاده عن الربا الصريح وأي معاملة يتطرق إليها الشك أو الاحتمال، وذلكم هو التوازن المطلوب؛ حين يجتهد الإنسان لتحصيل الرزق الحلال، واجتنباب الحرام والمتشابه، كي يغدو مثل شيخنا الذي قال: “فإذا كان المسلم مثلي مقصرًا في العبادة: من واجبه ألا يضيف إلى التقصير التعبدي حسابًا ماليًا ينتظره ليجيب عن السؤال المتوقع: من أين اكتسبه وكيف أنفقه؟”. ألا ما أعقل من صيّر المال خادمًا له في كل حال، ولم يكن هو الخادم للمال فقط!
حقًا إن معالي الشيخ الراحل عبدالعزيز بن عبدالله السالم -رحمه الله- يمنح عصرنا صورة وضيئة عن التوازن في الفكر والعمل، وعن التوازن بين أكثر من حياة، وفي عدة مجالات وأحوال ومناسبات. هذا التوازن محمدة لصاحبه، خاصة إن كان ممن تهيأت له الفرص كي يستعلي أو يتمدد ذات اليمين وذات الشمال، فلم يفعل من تلقاء نفسه الرادعة الوقّافة عند الحدود. هذا التوازن الحميد مطلوب في المجتمعات والأروقة الثقافية ولو بقدر محدود؛ كي تعتدل بها صورة أو صور ترتع ولا تمتنع، وتميل مع الرياح، وتجري مع الأمواج، وتتبع المؤشر والتيار، فتفقد البوصلة، ويضيع منها مفتاح القيادة، وتفقد أدوات التأثير.
الرياض- الخميس 26 من شهرِ جمادى الأولى عام 1446
28 من شهر نوفمبر عام 2024م
نشر هذا المقال في العدد الثاني والثلاثين الصادر من نشرة جسور الصادرة في شعبان 1446 عن مركز حمد الجاسر الثقافي.