نشأت في بيت متآلف محب للثقافة، لذا كان للإذاعات المحلية والعربية والعالمية فيه حضور لايخفت، خاصة لدى الوالد والجد -رحمهما الله-، وعند شقيقتي الكبرى الجوهرة -حفظها الله-. صنعت هذه النشأة الأولى علاقة وثيقة بيني وبين الإذاعة وأجهزة المذياع التي عشت مع أنواعها المختلفة في الحجم والصناعة ومصدر الطاقة وغير ذلك، وزادت هذه العلاقة مع الأيام حتى مع وجود وسائل أخرى بدءًا من الشاشة وصولًا إلى الإنترنت والذكاء الاصطناعي، ويخلق مالا تعلمون.
إن للسماع تأثير عظيم ربما لا يلتفت إليه البعض، فللأذن منفذ مباشر للقلب والعقل قد يسبق البصر وبقية الحواس، ولهذا الموضوع شواهد قرآنية كثيرة يمكن تتبعها عندما ترد مادة السمع أو الأذن. ولا أدل على أهمية السماع من أن القرآن الكريم، وهو أعظم نص وأقدس خطاب، نزل إلى الأرض ليكون مسموعًا يتلقى بالمشافهة أول الأمر، وهز سماعه أولي الألباب الفصحاء، حتى أيقنوا بعلوه وحلاوته وخروجه عن مقدرة الإنس والجن ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.
وكم كنت أشارك الوالد -رحمه الله- مع بقية أفراد الأسرة في الاستماع لهيئة الإذاعة البريطانية، خاصة أخبار التاسعة، وبرنامج السياسة بين السائل والمجيب، وقول على قول للأديب حسن الكرمي. كما تابعنا معه إذاعتي القرآن الكريم ونداء الإسلام عندما تبث حلقات برنامج الإفتاء الشهير نور على الدرب، ويكون ضيف اللقاء سماحة الشيخ عبدالله بن حميد. وتنقلنا في إذاعات أخرى معه أو مع الجد؛ لكنها لم تأخذ صفة الديمومة، مثل صوت أمريكا ومونت كارلو وإذاعتي السعودية وغيرها. تعود علاقة أبوي بالإذاعة إلى سفرهما التجاري ضمن قوافل العقيلات، ومشاهدة المذياع في عدة بلدان عربية.
صنعت هذه الرفقة محبة خالصة في نفسي للإذاعة ولأجهزة المذياع. مما أذكره أن أحد أشقائي تعرض لعقوبة بكى على أثرها، فعبر من جوارنا مقيم عربي معه جهاز مذياع متوسط الحجم وأعطاه لأخي تطييبًا لخاطره، ولا أكتمكم أني تمنيت حينها الظفر بالجهاز دون الوقوع تحت طائلة العقاب! وأذكر أني حصلت على جهاز مذياع صغير الحجم هدية من أحد الحجاج العائدين من أداء الفريضة، وكانت هدايا الحج في تلك الأيام شائعة يجلبها معه من وفق لموافاة الموسم العظيم، وكان المذياع أحظى عندي من الألعاب على شدة إغرائها.
وعندما أصبحت في المرحلة الثانوية درسنا مادة الأحياء عند أستاذ مصري صالح بصير، وذات مرة قال لنا: استثمروا أوقاتكم الزائدة بالاستماع لإذاعة القرآن الكريم، وكأنه أمام عيني الآن وهو يمثل بيده شكل المذياع الصغير بجوار الأذن، ويحثنا الأستاذ عصام الدين صلاح محمد على اغتنام إذاعة القرآن الكريم التي تُعدُّ من أطهر وسائل الإعلام وأنقاها وأغزرها فائدة. لقد وقعت كلمته في نفسي موقعًا عظيمًا، ومن ساعتها وعلاقتي وثيقة الصلة بإذاعة القرآن الكريم عبر جهاز شخصي أو في السيارة. ألا ما أعظم وأعمق أثر المعلم المربي على تلاميذه حتى دون أن يشعر.
وكم في هذه الإذاعة، وأختها إذاعة نداء الإسلام، من برامج نافعة مثرية، تأتي التلاوات القرآنية على رأسها، ثمّ البرامج العلمية من القرآن والسنة واللغة والتاريخ، وكم لدى طواقمهما المجتهدة من أفكار حديثة، ومتابعة للجديد من الوسائل التي تتفاعل مع لوازم العصر، ولذا فهي تستقطب إلى يومنا جمهورًا متدفقًا لا ينقطع من المستمعين الدائمين أو الموسميين، وإن وصول صوت هاتين الإذاعتين المباركتين إلى بقاع عديدة وبعيدة، واستمرار بثهما طوال ساعات اليوم والليلة، لمما يحمد لبلادنا، وللقائمين على شؤون الإعلام والإذاعة، وعسى أن تعظم لهم عند المولى الأجور، هذا غير ما تضيفه لرصيدنا من قوة ناعمة هادئة لها سلطان لا يُقاوم.
من لطيف ما عرفته، أن ميلاد إذاعة القرآن الكريم وميلادي كانا في يوم واحد أو يفصل بينهما ساعات قليلة فقط. هذه المعلومة زادت من ارتباطي العاطفي بالإذاعة فضلًا عن الارتباط الروحي القديم الباقي، راجيًا المولى أن يجعلني مقتبسًا من توالي نفعها وبقائه وانتشاره، وشبيهًا لها في شبابها المتجدد كذلك! ومن إبداعات إذاعتنا ذلكم الطرق المتنوع والابتكاري للموضوعات وسبل العرض، وإحياء القديم، وتكرار المفيد. ومن عمق بعض برامجها أن مادتها صدرت مطبوعة في كتاب، مثل من لطائف التفسير للشيخ عقيلان، ومن التاريخ الإسلامي للدكتور الحميدي، وغيرهما كثير.
أما غرائب الإذاعة التي وقعت في مشواري معها؛ فمنها أني في صغري أفرح بالجهاز الذي يستقبل أصواتًا أخرى غير الإذاعة، وهذا الفرح تلاشى من نفسي تمامًا عندما كبرت قليلًا لأنه نوع من العبث، وكم بحثت عن أجهزة بعينها زعم العارفون أنها قوية في اصطياد الأصوات. ثم حدث أن اشتريت جهازًا صغيرًا أزرق اللون من حجاج روس، وتفاجات بقدرته القوية على التقاط الإذاعات وغيرها، مما أغضب والدتي -رحمها الله-، وأخافها عليّ، لكني طمأنتها بأن الأمر يسير، وأني لأ أتعمّد ذلكم التتبع، وتبت منه تمامًا؛ فهو من غرارات الصبا والشباب الأول، ويشاء المولى أن يعثر نجلي الأكبر مالك -حفظه الله- على الجهاز بعد أن عبث بحقيبتي على إثر عودتي من سفر؛ فحطمه تحطيمًا؛ وكأنه في طفولته يعلمني درسًا في المبادرة لطاعة الأم!
الرياض- الخميس 30 من شهرِ رجب عام 1446
30 من شهر يناير عام 2025م